امتدادات الكتابة وقوة الشعر .. بين يدي محمد عنيبة الحمري

محمد عنيبة الحمري أحد رواد قصيدة التفعيلة المغربية، وبحكم هذه الريادة، كنت أعاود قراءته بحثا عن أعمدة الشعر، وعن ترتيبها عنده منذ ديوانه الأول «الحب مهزلة القرون» 1968، وفي كل قراءة أسائل نفسي: كيف يمكن أن يتقدم المعنى عند الحمري ويقدمه؟
​ هنا استعدت قراءتي لشعره الممتد لخمسين سنة تقريبا، حيث قادني منجزه النصي إلى فهم المعنى والموضوع الشعري، عندما يمتزج الإحساس بالخيال، أو ما تختزنه الذاكرة من مهارة الثقافة واللغة، أو حينما تتماهى الموسيقى واللفظ والخيال والمعنى في كيمياء اللغة.
​ فبالرغم مما انتاب الشعر المغربي من تحولات خارجية تبعا للتطور الحياتي والحضاري الذي مر به العالم العربي، فإن التطور الذي اشتغل عليه الحمري كان من داخل الشعر، فلم يفقد لقصيدته جوهرها مخترقا حدود الزمان والمكان والوقائع، محافظا على هوية الشعر. وقديما قال معمر بن المثنى: إن الشعر جوهر لا ينفد معدنه. وقد صدق الرجل، فقارئ شعر الحمري سيجد أن للشعر سلطة جمالية، وهي عنصر مركزي على امتداد مدونته الشعرية الثرية.
​ إن محمد عنيبة الحمري في هذه التجربة الممتدة على مدار نصف قرن، والمبثوثة في سفرين متكاملين، يحاول أن ينشئ سياقها الخاص من خلال تفكيك اللغة، وإعادة بنائها بصورة دالة على تداخل الأزمنة، وانفتاحها على الكون، وتداخلها في مشهدية ملحمية نافرة بملامح قسوتها ومحنها، وألفتها الضارية، وبما يساعد في إعادة هذا التاريخ بدلالاته الموحية ومفارقاته المدهشة.
​ تبنى الحمري في كتاباته الشعرية رؤية حيوية، ولم يتناول التعبير عن الحياة بشكل مباشر، ولم يرهن قصيدته كمرآة عاكسة للواقع والوجدان العاطفي، بل كموضوع حياة وكطاقة تستفز الوعي والمعرفة لدى الإنسان. وبراديكالية صلبة اتخذ لشعره وعيا فلسفيا ينأى عن التناول البسيط لدقائق الوجود.
​ ولكن التساؤل الذي يرد علينا: هو طبيعة سفر الحمري الشعري بوصفه واحدا في سلسلة المسافرين، وكيف جاء السفر في مدونته الشعرية؟ وهي مدونة محدودة كميا، وممتدة نوعيا، ذلك أنه واحد من المقلّين، وهذه أولى علامات الشعرية، من وجهة نظري، إذ إنه كان يقدم ديوانا شعريا كل خمس أو ست سنوات في المعدل الإنتاجي، فمنذ عام 1968، أصدر ثماني مجموعات شعرية:
– الحب مهزلة القرون 1968- الشوق للإبحار 1973- مرثية المصلوبين 1977- داء الأحبة 1987- رعشات المكان 1996- سم هذا البياض 2000- انكسار الأوان 2006- تكتبك المحن 2013
وهذا الإقلال مرده أن الشاعر يحتاج إلى شروط معينة للدخول في الحالة الشعرية، وذلك بحسب ما هو متاح في الزمان والمكان، فهو لا يستعجل نصوصه، بقدر ما كان يتركها تنضج على نار هادئة، وتستوي وفق رؤيته.
قال ابن قتيبة: أشعر الناس، من أنت في شعره حتى تفرغ منه. أي أنك تخرج من حالتك لتدخل حالة الشاعر، وتندمج في طقسه الإبداعي، فلا تخلص لنفسك إلا بعد الفراغ من النص، وهذا ما يعيشه المتلقي لقصيدة الحمري، حيث يترك عالمه المادي بكل مفرداته، ويتأمل العالم الجديد الذي كونته القصيدة، بكل مفرداته المتلاحقة.
ولأن شعر الحمري طقسي، فإن التساؤلات تتوالى لحظة التلقي، وتبحث عن إجاباتها المحققة أو المفترضة التي تدير حوارا وجوديا وإنسانيا تستدعيه رؤية الشاعر وتتغيا أن يفقد الوجود هويته حتى يصبح فصلا مستأصلا ومشحونا باللهب والعدم.
مع شعر الحمري تغيب منطقتا البدء والوصول، وتتخلص الأشياء والعناصر من ماديتها وقيودها، لتسمو القصيدة محلقة بإيحائيتها الضاربة في التجريد أحيانا، وتصبح مدونة نسق حياة، ومن ثم تغدو إقامة في القصيدة نفسها الخاضعة لسطوة الرفض رغم المغريات.
فشاعرنا يمنح للغة حظوتها، بها يفكر وفيها يعلو بشعره إلى أفق المطلق، وبحق، بهذا العلو، امتلك زمام التكوين والخرق، وأبدع باللغة باعتبارها حقيقة في ذاتها.
للتمثيل أكثر، ننصت إلى ديوانه الأخير «ترتوي بنجيع القصيد» 2019 الذي بدا فيه الشاعر مشدودا إلى قوة الكتابة، وهذا ما يفتح القارئ على سؤال كبير؛ لماذا ينبغي للشاعر أن يكون أصيلا؟ سؤال طرحه جيمس فانتون في معرض حديثه عن قوة الشعر ضمن مؤلفه «قوة الشعر» الذي يضم منطلقاته الشعرية والفكرية، والتي يسعى من خلالها إبراز صفة التفرد وصلتها بمفهوم الشعر، بحيث نتوقع أن يكون كل صوت شعري صوتا مميزا. فالشعر الجيد «يكون عظيما ومتواريا عن الأنظار، شعرا يدخل روح المرء فلا يثير الرعب والدهشة بخصيصته، بل بموضوعيته» (ص 32)
تأتي هذه المقتبسة، في سياق الحديث عن ديوان محمد عنيبة الحمري «ترتوي بنجيع القصيد»، وهو العمل التاسع في مسيرته الشعرية الممتدة لخمسين سنة من الكتابة والوفاء للقصيدة التفعيلية.
ليس وفاء عاديا وإنما بغاية إعادة بناء إدراكنا لجوهر الشعر ولقوته التي تتمثل في المدخل الشعري الصوتي، فإذا كانت نسبة كلامنا اليومي مليئة بالصور المجازية، فإن رؤية عنيبة الحمري للشعر تنصب على تحولات الكلمة الشعرية واللغة البانية وكيفية تشكيلها للصورة اليومية، وذلك بعد تحررها من أطرها الأسطورية والميثولوجية التي كانت مقيدة لها بثوابت استعارية تفسيرية محددة.
تكتسب اللغة الشعرية، في ديوان «ترتوي بنجيع القصيد»، مرونتها الصوتية والدلالية بأن تستوعب جديد الحياة المستدعاة. لقد أصبحت الكلمة الشعرية نابعة من طقس وألق، وبينهما تبرز الحركة الجلية للواقع، من خلال التناقضات والصراعات. يقول الشاعر في مقطع «غياب» من قصيدة «طقوس التحبير»:
وتمادى الغياب
فأخلفتُ كل المواعيد
لم أمتثل للحضورْ
وأضفتُ إلى ساعتي
ساعةً
ربما أستطيع الوصولْ
غير أن عقاربها
امتنعتْ
كفتِ النبضاتُ
عن الخفقان
وتاهت عقاربها
فتعذر أمر الحضور
وتمادى الغيابْ.( 69-70)

تستغني قصيدة عنيبة الحمري عن الواقع كما في الأسطورة والأشكال الاستعارية التي تتحكم في وجهة القصيدة، فهو لا يكترث لعودة تموز ولقائه بعشتار في فصل الربيع، وإنما يتحكم في اللغة ويخضعها لإيقاعه الذاتي، ويخضع أجواء القصيدة إلى فعل إرادي مجهول وغير محدد، من كونها نابعة من فعل إنساني. فهو شاعر تستفزه الحياة المغلفة بالاستعارات الواهية والواهمة، فلم يُبق الكلمة على سياقها المعهود والمطروق، أو ملحقة ككولاج بأية ظواهر واقعية مسبقة، لأن الكلمة، في المقطع أعلاه وفي مدونة الحمري الشعرية، تستوعب الصورة الحياتية اليومية، لتصبح بعدئذ كيانا كتابيا بذاته، يتجه صوب نفسه وبنيته، حركته صاعدة غير أسيرة لأي استعارة جاهزة.
وعليه، فإن تداخل وتمادى الغياب في الحالة البدئية للمقطع، بذات الجملة في الخاتمة هو ملمح شعري مهم في تجربة الحمري، لأنه يشهد على امتداد الدلالة وتعضيد نصية الشعر، بالاشتغال على تأطير اللحظة الزمنية التي شهدت تلاشي الراهن وامتداح الغياب.
لا تكسر نصوص الديوان استقامة الرؤية الشعرية التي تبناها الشاعر، وإنما ترسي إيقاعا خاصا يقوم على دمج الأنا بالكتابة، لأن قراءة القصيدة لا تترك هامشا لتأويلها إلا بالنظر إلى شاعرها، مما يسمح بقراءة الوشائج بين المجاميع الشعرية لمحمد عنيبة الحمري بعين تتنبه للمعلن والمضمر فيها على حد سواء.
تنطوي قصدية الشاعر أكثر من غيرها على إمكان قرائي يسمح بملامسة ظلال مخاطب يحمي هوية الأنا بخلق دينامية في اتجاه التجدد، على نحو يجعل هذه الهوية تتأسس في صراع باعث على استمرار الفعل الكتابي الشعري. يقول الشاعر في مقطع «انزياح»:
بجبينك تلك التجاعيد
تفصح عما تكابده
في الخفاء
ويجف من الهم ريقك
تبدو كمن جنحتْ
للمياه سفينته
فلتحاول مقاومة النوم (ص 77 )
سمة هذا المقطع أنه يفصح عن موضوعه، بل ويهيئ مسار الدلالة لتحديد التحول الطارئ، فالشاعر جعل من الكتابة الشعرية موضوعا لذاتها، ومع أنه لم يتخل عن المواضيع الأخرى، فإنه حرص على تحويل الكتابة إلى موضوع شعري، مما يجعل الموضوع لصيقا بهوية الشعر كما في مقطع «إبداع». يقول الشاعر:
لن تعاتب هذا الغبار
وكنت نسجت قصيدا
بذراته فانمحى
أو تلوم رياحا طفت
فاستباحت حماه
أنت من قد أساء
اختيار المداد
وجنس الورق
ربما المحو كان كتابة (9-10)

إن التحول الذي نزعم تحققه في قصيدة الحمري يتسنى ربطه بشيئين؛ الأول كامن في انفتاح التجربة على الكتابة بوصفها موضوعا ومقصدا، أما الثاني فيصاحب بناء الشاعر لهذا الموضوع، بمساءلة آفاق هذا البناء وحدوده. فالحمري لا يسائل بطلا شعريا كبطل بودلير الملاك الذي سقط في المدينة، أو بطل أبولينير المتشرد الذي نفضته الأزقة الضيقة. وإنما يسائل بطلا مجهولا، أو على حد تعبير أوكتافيو باث «معتزل وسط حشود من المعتزلين» مثل بطل جيمس جويس الذي اكتشف أنه وحيد في الوجود.
لم تتأثر كتابة عنيبة الحمري باتجاه جديد لإعادة إنتاج الواقع، بل كانت جاذبيتها الكبرى الاشتغال على اللغة والزمن والصوت وفق مبدإ التجاور والتوافق، بمعنى آخر، كسر الطبيعة الاحتشادية لبنيات المشابهة للشعر، والاشتغال أكثر على أسبقية استخدام التوافقية الدلالية والصوتية. وقد طرحت قصيدته تلازما هارمونيا وتناغما تأليفيا مولدا للدلالة، وكل صوت في قصيدته، يجب أن يسمع بوضوح، بحيث أن المستمع يفهم المعنى، والتناغم الذي هو جوهر الأداء اللغوي. نقرأ في مقطع «قبر طواه النسيان» من قصيدة هموم التدبير:
فتحوا صدره
فطوى حزنه
فتشوا جيبه
ورموا نعشه
هكذا تركوه
أنهم فقدوه. (99-106)

إن ما يكتسي أهمية في هذا السياق، هذا الاقتران بين الصوت والدلالة في كتابة الديوان، على نحو يوسع امتداد الرؤية ويمنع حصرها في المدخل البياني. إن هذا التوسيع الذي تحقق من داخل الكتابة يجعل التجربة مفتوحة على ذاتها وتشيد بهذا الارتواء من الكتابة أولا، والواقع ثانيا.
لعل القلب الذي أحدثه عنيبة في قصيدته يقود إلى ربط المعاناة بالكتابة لا بأحداث الوقائع، وهذا قلب في مفهوم الخيبة التي اكتسحت قصيدة النثر. والرهان الثاني متمثل في كون الكتابة متمنعة عن الاكتمال، مما يوثق صلتها بالمستقبل، فهي سيرورة غير مكتملة، ورؤية مولدة للرغبة في الكتابة من جديد. يقول الشاعر في «مقطع إبداع»:
لن تعاتب هذا الغبار
وكنت نسجت قصيدا
بذراته فانمحى
أو تلومَ رياحا طفت
فاستباحت حماه
أنت من قد أساء
اختيار المداد
وجنس الورق
ربما المحو كان كتابة ص.(9-10)

تحول الخيبة من واقعة إلى مجابهة مع اللغة يصل التجربة بالكتابة ويفتح الشعر على ماضيه ومستقبله: ربما المحو كان كتابة. وانطلاقا من هذا الرهان الذي شكل حالة بدئية في الديوان، فإن الشاعر جمّع أضلاع تصوره الشعري باحتدام الصراع مع الكتابة، لأن انبثاقها يسهم في بناء النص ككل.
هكذا، يكتب محمد عنيبة الحمري قصيدته عندما تكون هناك حاجة ما لكتابتها، والحاجة التي نعنيها هنا، هي سيرورة الكلمات تشكيلا لكيان مادي هوالشعر، ومن خلاله تتبدى التجربة الشعرية بوصفها اكتشافا لشعرية المحو، وإظهارا له. فالكتابة تتم عندما تسبر المحو وتجاوره لا بوصفه فراغا وإنما بوصفه منطويا على ما لا يُرى.


الكاتب : عمر العسري

  

بتاريخ : 27/12/2024