امرأة في مواجهة الموت 18 : جالينوس أب التشريح الطبي على عهد الرومان

اختارت أن تعيش بين الثلاجات وطاولات التشريح، أن ترافق الأموات طيلة 15 سنة تقريبا وهي تستنطق الجثت بحثا عن عدالة فوق الأرض قبل تحتها، مشاريط متنوعة ومناظير مختلفة وحقائب وقناني بيولوجية بمشرطها تُعلي الحقيقة، كما ان تقاريرها لا يدخلها باطل فهي مهيأة لتنصف المظلوم، مشاهد الموت اليومية لم تضعف قلبها أمام موت متكرر ليل نهار وعلى مدار السنة. فقد اعتادت العيش وسط أجساد متحللة وأشلاء بشرية واجساد متفحمة واخرى فقدت ملامحها. من أجل أن تعلن عن الحقيقة كاملة انها الدكتورة ربيعة ابو المعز خلال هذا الشهر الفضيل سيبحر معنا القارئ لتفكيك جزء من مرويات الدكتورة ربيعة ابو المعز إخصائية الطب الشرعي بمستشفى محمد الخامس.

 

أكدت الدكتورة ابو المعز أن ما وصل له اليه اليوم التشريح الطبي لم يأت من فراغ أو فرضته الآليات، ولكن التطور العلمي الذي عرفه هذا التخصص هو الذي جعل الكل يعتمد عليه في القضايا الكبرى والصغرى اليوم، وجاء عبر مسيرة امتدت لاكثر من 450 سنة
ففي منتصف القرن 16، داخل غرفة صغيرة تتوسطها طاولة تحمل فوقها جثة أحد المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام؛ اكتشف عالم تشريح موهوب يدعى أندرياس فيساليوس اكتشافًا مذهلًا، ألا وهو أن أكثر كتب التشريح شهرة في العالم كانت على خطأ! وأنها لم تفشل فقط في تفسير تفاصيل كثيرة من جسم الإنسان، بل فشلت أيضًا في وصف أعضاء القرود وغيرها من الثدييات.
وفي الوقت الذي شعر فيساليوس بأنه كان على صواب، فإن إعلان تلك الأخطاء كان تحديًا لجالينوس بيرجامون، الطبيب الأكثر شهرة في تاريخ الطب. فمن صاحب هذه الشخصية المرموقة؟ ولماذا ظل الأطباء يقدسونه، ويعملون بكتبه ونظرياته لمدة 1300 عام؟ وكيف حطم فيساليوس الهالة التي تشكلت حوله٠
ولد جالينوس في عام 129م، في برجامون بآسيا الصغرى، وكانت حينها مدينة ذات ثقافة عالية، أتاحت لجالينوس أن يتلقى ثقافة فلسفية وطبية، لكنه لم يكتف بذلك، بل غادر المنزل في سن المراهقة ليذهب في رحلات علمية إلى آسيا الصغرى، والإسكندرية، ومراكز طبية أخرى؛ بحثًا عن العلم والحكمة الطبية.
وبالفعل، تشرب جالينوس في رحلاته كثيرًا من المعرفة، وعاد إلى منزله جراحًا موهوبًا شغوفًا بعلم التشريح. ثم دفعه طموحه للذهاب إلى روما، حيث سرعان ما ظفر بصيت لامع بوصفه طبيبًا وأستاذًا في التشريح. وأكسبته إنجازاته منصب جراح مصارعي المدينة، ثم أصبح الطبيب الشخصي لأربعة من الأباطرة الرومان، وكان من بين الذين عالجهم الإمبراطور ماركوس أوريليوس.
وكان جالينوس قد اعتمد اعتمادًا كبيرًا في منهجه العلمي على التجارب العلمية والفحص الإكلينيكي، مستندًا إلى الوقائع الملموسة، إذ كان مقتنعًا بأن لكل عضو وظيفته المحددة. لكن بسبب منع الإمبراطورية الرومانية استخدام الجثث البشرية لأسباب دينية، أجرى جالينوس عددًا من التجارب التشريحية على الحيوانات بدلًا من البشر. ومع هذا، فقد أسفرت تلك التجارب عن بعض الاستنتاجات الدقيقة.
من أهم إسهاماته، كان إلقاء الضوء على أن المخ وليس القلب، هو من يتحكم في الجسم. بالإضافة إلى التفريق بين الأعصاب الحسية والحركية، وتأكيد تصنيع البول في الكلى، واستنتج أن العضلات والأعصاب تتحكم في عملية التنفس. لكن على الجانب الآخر، أدت تجاربه لبعض المفاهيم الخاطئة، وأوقعته ثقافته الفلسفية في بعض الاستنتاجات البعيدة عن الصواب!


الكاتب : مصطفى الناسي

  

بتاريخ : 22/04/2022