مَا إِنْ يَنْسَحِب
وبِتَرَدُّدٍ شَدِيد،
الشَّارِعُ الأخِير
لِيَعُودَ لِمَدينَتِهِ الْقَابِعَةِ
بَيْنَ نافِذَتَيْن،
حَتَّى تَحُلَّ مَكَانَه
رَعْشَةُ تِلْكَ الْمَرْأَة.
كَانَتْ امْرَأَةً كَبَاقِي النِّسَاء،
تَحْنُو عَلَى الأوَانِي
وَهِي تَجْلُوهَا
بِأَيْدٍ لا يَتَذَكَّرُهَا أَحَد،
تَتْرُكُ شَيْئًا من هَمْسِهَا
فِي الْغَسِيلِ الأبْيَض،
تَلْعَنُ رَائِحَةَ الْبَصَلِ الْمَخْرُوطِ
عَلَى قَلْبِهَا،
تَكْنُسَ الأَرْضَ كَمَا لَوْ أَنَّهَا
تَمْحُو خَطايَاهَا الْجَمِيلَة.
حِينَ يَشْهَقُ الشَّفَقُ
في أَمَاسِي الْخَرِيف،
تَضَعُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ يَدَهَا
عَلَى أَصْوَاتِ صَدْرِهَا،
لِتَقِيسَ الْمَسَافَةَ
بَيْن قِدْرِ الْحَسَاءِ وقَدَرِ الْحَطَب.
وَبِانْتِشَاءٍ تَغْمِضُ عَيْنَيْهَا
كُلَّمَا فَاجَأَتْهَا
زَغَارِيدُ الَّذِين يُعْلِنُونَ
قُدُومَ مَنْ لا يُحْسِنُونَ الرَّحِيل.
مَتَى اقْتَرَبَتْ
مَواوِيلُ الأُغْنِيَاتِ الْجَبَلِيَّةِ
مِنْ دُرُوبِ حُزْنِهَا،
تَفُكُّ ضَفِيرَتَهَا
فَيَتَسَاقَطُ مِنْهَا الْقَرَنْفُلُ وَالدِّفْلَى
وبَعْضُ الذِّكْرَيَاتِ الْمُجَفَّفَة.
مِئْزَرُهَا سَرَابٌ …
يَتَسَلَّقُ انْحِنَاءاتِ خَصْرِهَا
بِرُعُونَة مُذْهِلَة،
لا تَدْلِفُ إلى سَرِيرِهَا
إلا بَعْدَ أَنْ تُسْلِمَ حَسْرَتَهَا
إِلَى أَشْباحِ الْيَوْمِ التَّالِي.
فِي رَعْشَةِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ
تَتَكَاسَلُ الشَّمْسُ عَنِ الأُفُول،
تَنَامُ الْقِطَطُ
وَهِيَ تُحَاكِي شَكْلَ الرَّغِيف،
يَتَنَدَّرُ السَّكَارَى
عَلَى أَوْجَاعِ الْحَانَات،
تَنْسَحِبُ الكَلِمَات
مِنْ حِوَارِ يَوْمٍ بَسِيط،
يَطِيشُ الصُّبْح
بَيْنَ تَرَانِيمِ مِحْرَابٍ
وفِنْجَان قَهْوَة،
تُصِيخُ الأُمَّهَاتُ
لأَجْسَادِهِنَّ المُضَمَّخَةِ
بِطِينِ الزَّمَن الأثِير،
تَتَجَادَلُ اليَعَاسِيب
تَحْتَ لَوْنٍ رَتِيب،
النَّخِيلُ وَحْدَهَا عَرَاجِينُهَا
تَتَثَاءَبُ أيَّانَ اسْتَبَدَّ السَّمَر.
عِنْدَمَا تَنْحَنِي النَّافِذَتَان
حَيْثُ تَبِيتُ الْمَدِينَةُ
يَهْجَعُ ذلكَ الشَّارِعُ الأخِير
فَتَصِير رَعْشَةُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ
لَبْلابًا،
الأمْطَارُ الزَّرْقَاءُ تَشْتَهِي تَلافِيفُهَ
إِذْ هُنَاكَ تَعاوِيذُ الْحُبِّ تَنْتَظِر.