بجرة قلم ..قواعد التفاهة

نمارس الحياة فوق بركان يهددنا بالغضب القريب، ويتوعد بالانفجار، بينما نواصل العيش نحن دون الاكتراث لجدية الوضع.
هي كارثة اجتماعية حقيقية، تتشكل في غفلة منا… بالقرب من الجميع! تنذر بالخطر وتدق ناقوسه…
والأفظع أنها تمس المستقبل وتزعزع استقرار الأجيال الصاعدة.
كارثة إنسانية تتعلق بالتنافس في صنع واستهلاك التفاهة!!
أعلم أنه من الجميل أن تختلف اهتمامات الأفراد وأن يخرجوا بين الفينة والأخرى من قالب الجدية إلى الهزل… أن يبحث الإنسان عن التسلية وأن يصنع لنفسه متنفسا ينسى داخله هموم المجتمع وسوادها…
أن يلوذ للفارغات، الخاويات، العقيمات… بحثا عن بعض من البهجة والفرح وطمعا في تحرير الفكر والعقل من القضايا التي تؤرقه…
لكن أن تتسابق الأغلبية إلى قشرة الفاكهة وتلتهمها ثم ترمي باللب خلفها غير آبهة بالعواقب، فالأمر هنا ينذر بسوء تغذية حتمي وداء عضال ينتشر كالنار في الهشيم بين أعضاء المجتمع ويتفشى…

هذا التنافس،
وفي ظل توفر المنصات المنفتحة على العالم وسهولة العرض، يتخذ قوالب عديدة ويأخذ أشكالا مختلفة، إلا أن أغلب صناع المحتوى عادة ما يسلكون السبيل الأسهل والخالي من المجهود، وينشرون غسيلهم أمام الجميع، إذ تجد نفسك كفرد يلج مسكنه الخاص في العالم الافتراضي كغيرك من السكان، -تجد نفسك- داخل الحياة الشخصية لأناس لا تعرفهم حتى، تعيش يومياتهم… تُتابع أخبارهم، وتُبدي رأيك في خصوصياتهم ومشاكلهم العائلية… بل يُمكنك أيضا أن تتدخل في ما لا يعنيك، باعتباره حقا مشروعا وواجبا تقوم به تجاه هذا الشخص «الذي لا تعرفه» بشكل شخصي..
مُفارقة عجيبة هذه التي أصبحنا نعيشها، حتى صارت ثقافة «نشر الغسيل» العاطفي منه، والأسري، والاجتماعي، والاقتصادي أيضا، شرطا أساسيا يتوجب على من يلج العالم الافتراضي الالتزام به، حتى يجني أكبر عدد من المتابعين ثم يحصد هامشا ربحيا مُحترما..
وبالرغم من أننا نحيا داخل هذه الدوامة، تجدنا نتساءل ما الدوافع التي تدفع حديثي الزواج إلى الطلاق يا ترى؟ ما الأسباب التي تجعل العلاقات الإجتماعية والإنسانية تنهار وتتفكك؟ وما الذي يوسع رقعة الأمراض النفسية لدى الكبار والصغار.. من اكتئاب وانطواء وتوحد وعقد شتى؟.. وكأننا نجهل الدور الذي تلعبه هذه المنصات في زعزعة الكيان الاجتماعي والنفسي والإلقاء بهما إلى الهاوية..
هي ثقافة «نشر الغسيل»، والتي سادت العوالم الافتراضية، تلعب على الحبلين وتؤذي الطرفين، المُنتج والمُتلقي، إذ تجعل حياة الأول فرجة للجميع، وتُفقدها خصوصيتها، بينما تُساهم في إكتئاب الطرف الثاني من خلال المقارنات التي  يقوم بها بين حياته “الرتيبة” و «الروتينية»وحياة الآخر المعروضة أمامه والمزدهرة بالنشاطات والتي غالبا ما تكون «تافهة»..!!
لنعد ونطرح السؤال: لماذا فتحنا المجال أمام وسائل التواصل الإجتماعي لهذا الحد؟ كيف سمحنا لها بانتهاك خصوصياتنا؟ كيف آل بنا المآل إلى هنا؟ وما شكل المستقبل والذي ستحمل مشعله أجيال جديدة تشربت قواعد هذا العالم الكاذب وتوحدت معه؟ ثم كيف يمكن لعلاقة ثنائية أن تتجرد من خصوصياتها وأن تفتح بابها أمام مئات العيون…؟ يتبادر هذا السؤال إلى ذهني متى صادفت عرضا شخصيا لخصوصيات الأفراد، يُبث أمام الملأ ويعلن بطلاه/بطله عن تخلصهما/تخلصه من الستار إلى الأبد…
هذه العلاقة التي يمكنها أن تتخذ أوجها متعددة، زوجية، أسرية، اجتماعية، روحانية…، تفقد قيمتها وتذبل وهي تُستهلك على مرأى ومسمع من الجميع، وبقدر الخصوصية والحميمية يقاس حجم فقدان الإنسان لنفسه وتخليه عنها.فكيف تجاوزت البشرية كل الأهداف النبيلة التي جاء بها هذا العالم الافتراضي من تواصل وتعليم وتثقيف ثم تسلية…، -كيف تجاوزتها-، وانساقت خلف سفاسف الأمور؟ كيف انقلبت الأدوار وباتت عجينة سهلة يطوعها هذا العالم كما شاء؟
لتجد نفسها اليوم وقد جُرفت نحو الهاوية، تعيش التفكك واختلالات شتى في نظامها !
وسائل التشتت الإجتماعي، سيّرتنا بدل أن نُسيرها.. وحكمت علينا بالانفلات والانزلاق.
وسائل التشتت الاجتماعي، أفسدت جمالية الحياة من حولنا، ولا تزال تتوعد بالمزيد في السنوات القادمة.

* شاعرة وإعلامية


الكاتب : مريم كرودي *

  

بتاريخ : 02/11/2022