صدر أخيرا للناقد «حسن نرايس» كتيب في 72 صفحة، بإخراج جميل و غلاف جذاب، بعنوان: «بحال الضحك!…السخرية والفكاهة في التعبيرات الفنية المغربية/مقاربات نقدية»، مصدرا بتقديم لـ»مصطفى النحال» بعنوان: «بحال الضحك! بلاغة الالتباس والمفارقة»، ومعززا برسومات كاريكاتورية موضوعاتية لـ»بلعيد بويميد».
أما عناوين الإصدار الفرعية فجاءت على التسلسل التالي: مفهوم الفكاهة والضحك/النكتة: تعريفها وحدودها وأسرارها/النكتة المغربية: هل من حدود؟/قال ليك هذا الجماني! قال ليك هذا أرسلان الجديدي!/من هم الفكاهيون المغاربة؟/و يسألونك عن الفكاهة الرمضانية في التلفزيون المغربي/المسرح الساخر والحلقة/الفيلم الكوميدي يلمع بغيابه في السينما المغربية!/الصحافة الساخرة بالمغرب: صحافة تظهر وتختفي/حميدو كيرا/سعيد الصديقي.
الحقيقة أن هذا الكتاب، على صغر حجمه، يشكل (على حد علمي المتواضع) سبقا هاما في التوثيق الرصين لتجربة الفكاهة و «البسط» و فن الإضحاك في المغرب الحديث و المعاصر، من خلال رصد التعابير الفنية التي اختارها أصحابه حاملا لخطاباتهم وإبداعاتهم، كفرجة الحلقة الشعبية مجسدة في رواد منهم «بوجمعة الفروج» و»الحسين السلاوي» و»بقشيش» و»خليفة» و «بوغطاط»؛ والتمثيل الإذاعي والتلفزيوني والمسرحي فالسينمائي ممثلة بأسماء كـ»البشير العلج» و»القدميري» و»بوشعيب البيضاوي» و»عبد الرحيم التونسي» (صاحب شخصية «عبد الرؤوف») و»المحجوب الراجي» و «البشير سكيرج» و»محمد الجم» وأقطاب فرقة «مسرح الحي» و «فركوس»؛ و الثنائيات الغنائية كـ»قشبال وزروال» و»قرزز و محراش»، وغير الغنائية كثنائيات الحلقة مثل «اللوطة وبعاو» و «ولد خرشاش ونعينيعة»، و ثنائيات خارج مجال الحلقة كـ»عبد الجبار الوزير و محمد بلقاس» و «الداسوكين و الزعري» و «خديجة أسد و عزيز سعد الله» و»بزيز و باز» (أحمد السنوسي و الحسين بنياز) و»عاجل و فولان» و»السفاج و مهيول» و»ثنائي التيقار»؛ و المونولوغات والنكت المسترسلة في وصلات «الوان مان شو» كـ»سعيد الناصري» و «حنان الفاضلي» و»حسن الفد»؛ وتأثيث المشهد الساخر المغربي بخرجات واعية يمكن نعتها بـ»التأصيل المعاصر» كما عند «محمد عاطر»؛ و غيرها من النماذج و الأشكال و الألوان التي يزخر بها الربرتوار الضاحك المغربي.
بل إن المؤلف أدرج، في مسح بيوغرافي متكامل، حتى الأسماء التي عرفت بشخصيتها المرحة المضحكة بالفطرة و السليقة، وإن لم تقصد قط امتهان الإضحاك، كالشخصية الشعبية الذائعة الصيت في الحي المحمدي بالدار البيضاء: «كيرا»(1)، و المبدع المسرحي «السعيد الصديقي»(2)؛ و هما الشخصيتان اللتان أفرد المؤلف لكل منهما حيزين خاصين، باسطا فيه نماذج من مواقفهما وأقوالهما وردود أفعالهما الساخرة، المأثورة منها، والتي تكشف للقراء لأول مرة.
أفرد الكاتب أيضا حيزا خاصا للصحافة الساخرة بالمغرب من خلال تجارب تعرضت أغلبها للمضايقة ثم التوقيف أو الاختفاء، تلك التجارب التي عرفت فعلا خلال صدورها تجاوبا كبيرا مع القراء من جميع الفئات؛ نذكر منها جرائد مثل «أخبار السوق» و «التقشاب» و «الهدهد»، و العمود الساخر الشهير «نافذة» للشاعر «عبد الرفيع الجوهري».(3)
إلا أن مؤلف «حسن نرايس» يتجاوز البعد التوثيقي والبيوغرافي والكرونولوجي للمنجز الساخر الوطني، ويتجاوز وقفات تحليلية لابد منها كتلك المخصصة لتيمات الضحك المغربي التقليدية منها كالمفارقات المزدوجة لـ»العروبي و المديني» أو العصرية كضحك المغاربة من أشد الأزمات و الكوارث كـ»زلزال منطقة الحسيمة» مثلا و متابعتهم الدقيقة («اللي ماـتتفاكش!») للراهن المجتمعي كما في نماذج النكت المنتجة حول السلع الثلاث التي يقاطعها المغاربة حاليا، و يتجاوز أيضا خصوصيات «ضحكية/إضحاكية» مغربية محضة كما وقع لـ»ضحيتي» التنكيت المغربي اللاذع انطلاقا من منتصف سبعينيات القرن الماضي فثمانينياته: الراحلين الشهيرين الزعيم القبلي الصحراوي «خطري ولد سيدي سعيد الجماني»، والنقابي والزعيم الحزبي والوزير «أرسلان الجديدي»…
يتجاوز «حسن نرايس» كل هذه التمظهرات التأريخية بعد احتواء أبعادها وتبيان مدخلاتها وتفاعلاتها المجتمعية ليفتح النقاش على مصراعيه قصد التداول في قضايا ذات صلة، على رأسها التوثيق والرصد والدراسة الميدانية والأكاديمية في هذا المجال، متسائلا عن ضآلة و ندرة التتبع النقدي لمسار الفكاهة المغربية، مستفسرا عن «عزوف» كثير من نقادنا وباحثينا عن الخوض في موضوع السخرية والفكاهة والضحك والإضحاك عموما، وهل من مبررات لهذا النفور و»الصمت» والاكتفاء بالتلقي العادي كـ»أيها الناس»؟!…(4)
ومن امتدادات الكتاب الاسترجاعية أن المؤلف تتبع، بأناة وحس أكاديمي رفيع، تطور مفاهيم الحقل الاصطلاحي للظاهرة الفنية موضوع الكتاب، انطلاقا من كوميديا «أريستوفان» و تنظيرات «أرسطو»، إلى الاستنتاجات المعمقة لأبحاث «باختين» والتطبيقات الركحية العبثية لـ»يونسكو»، مرورا بمحطات من الرصد العلمي المختبري كما عند «فرويد» و «برغسون»؛ مع تقديم نماذج استشهادية في رصد الظاهرة أو إنتاجها: عربيا كـ»الجاحظ» و «أبي حيان التوحيدي» و أبي دلامة، و عالميا كـ»جحا» و «برنارد شو» و»شارلي شابلن» و»كولوش»…
ثم إن «حسن نرايس» لم يتوان عن الوقوف في حينه عند تمظهرات الموضوع النوعية كلما استدعى المقام ذلك، وهذا ما اصطبر على تحليله و سبر أغواره في مقاربته التعريفية لـ»الكوميديا السوداء» على سبيل المثال.
إن الخوض في هذه الإشكالات المرتبطة بالموضوع ارتباطا إيتيمولوجيا، وتجاوز مجرد المسح الكرونولوجي للظاهرة، هو بالضبط ما يشفع للكاتب، باستحقاق، بإضافة العنوان الفرعي «مقاربة نقدية» لكتابه.
ومما سيكسب هذه «المقاربة/الدراسة» النقدية، في نظري، مصداقيتها في المكتبة المباحثية المغربية إن شاء الله: قيمة المراجع التي اعتمدها الكاتب من حيث الشمولية والتنوع وعمق المحتوى(5).
وتجدر الإشارة إلى أن موضوع الضحك والفكاهة والسخرية (مجتمعين) يكاد يكون تخصص «حسن نرايس» الثاني بعد النقد السينمائي، بغض النظر عن الحدود القطرية للظاهرة موضوع الدراسة: ذلك أن أول إصداراته كان بعنوان «الضحك والآخر: صورة العربي في الفكاهة الفرنسية»(6).
أما أسلوب الكتاب فميسر بحكم تمرس المؤلف بالكتابة الصحافية التي خبر ميكانيزماتها عبر مقالات عديدة انتظامية ترصد حركية الفنون ببلادنا، وفي مقدمتها السينما.
والمعلوم أن «اللغة» الصحافية المتقنة الصنعة، كما عند كاتبنا، المحترمة لخصوصياتها الإجرائية كالقصد والاختزال والتعميم والشمول والوضوح ومصداقية الإخبار قبل التحرر في التعليق أو الاقتصاد فيه أو الإحجام عنه في الأدنى(7)، وغيرها من تقنيات الإعلام المكتوب المكتسبة بالدربة، يجد تلقيا سلسا من كافة القراء، نخبا وطبقات وسطى وفئات شعبية؛ مع تسجيل القيمة المضافة لطبيعة الظاهرة المدروسة من حيث حضورها الجلي في الحياة اليومية للانسان المغربي، وتجذرها في مقومات شخصيته الانتمائية، وتعايشه الأزلي معها إنتاجا واستهلاكا.
هو إذن «مقال مطول»، أو لنقل «باقة مقالات»، إلا أنها أتت على شكل «مسلسل» في حلقات شيقة ماتعة، تشدك من أول صفحة إلى آخرها!
وكأني بالكاتب نفسه كان اليراع يسبق منه الأنامل وهو يخط الأفكار، أو قل: كانت الضربات على لوحة المفاتيح تسابق المتن!
وعلى سبيل الختم نقول إن «بحال الضحك!» كتيب يكاد مضمونه القوي الوازن المتكتل «يتفجر» من صفحاته القلائل و كأنها لا تسعه!… و من ثم فهي دعوة لكل مهتم و متتبع لمسار الفن الساخر المغربي، وللحركة الفنية عامة ببلادنا، لـ»تذوق» هذا الطبق الجديد الشهي و اللذيذ، «الخفيف» و»المشبع»؛ و نصيحتي لكل الذواقيين «تناوله» وجبة واحدة حتى تكتمل المتعة، فهو بحق: «بحال الضحك!…»
شهية طيبة!
هوامش:
(1) «حميدو كيرا»: 1943/1999.
(2) «السعيد الصديقي»: المعروف بـ»عزيزي»، أخ «الطيب الصديقي»: 1930/2003.
(3) ص57 إلى ص61.
(4) استمدت هذه المقاربة التقديمية عنوانها من الإشكالية عينها.
(5) من نماذجها: «المستظرف» لـ»الأبشيهي»، و «الظرف و الظرفاء» لـ»ابن يحيى الوشاء»، و «جحا الضاحك المضحك» لـ»عباس محمود العقاد»، و «معجم الطرائف» لـ»إيرفي نيكر»، و «الهزل و السخرية»
لـ»عبد الله الكدالي» و «أدبنا الضاحك» لـ» عبد الغني العطري»، و غيرها من المراجع المهمة.
(6) «الضحك و الآخر: صورة العربي في الفكاهة الفرنسية»، حسن نرايس، منشورات «دار أفريقيا الشرق»، االطبعة الأولى 1999، و الطبعة الثانية 2000 .
(7) واقعة منع و مصادرة و متابعة مجلة «نيشان» الأسبوعية نموذجا: ص 21 و ما بعدها.