تعرف أحياء درب السلطان والحي الحسني والحي المحمدي وغيرها من مناطق الدارالبيضاء تفشّيا كبيرا لظاهرة احتلال الملك العمومي، حيث أصبح الرصيف البيضاوي «ملكا» لمن لا ملك له، بل وحتى «أصلا تجاريا» يتم التحكم فيه من طرف لوبيات قوّية، تضع اليد عليه عنوة وتؤجره للغير ممن لا حرف ولا مهن ولا دخل لهم، ووحدها «الفرّاشة» هي التي تؤمّن لهم قوت يومهم، قد يكون وفيرا أحيانا وقد يكون «بخسا» أحيانا، وقد لا تأتيهم بدرهم في لحظات أخرى.
وإذا كانت الظاهرة تقلق الكثير من المواطنين، نظرا للتطاول على الأرصفة والشوارع، والتسبب في الاختناق والازدحام، ومزاحمة أنشطة تجارية أخرى تخضع للاقتطاعات الضريبية، وتعرقل حركة السير وتصادر هذا الحق في حالات كثيرة من أصحاب السيارات وغيرهم، فضلا عن كونها تعتبر مثل الدجاجة التي تبيض بيضا من ذهب للبعض، فإنها بالنسبة لبعض النساء تعتبر مصدر العيش الوحيد في ظل ظروف جدّ صعبة وقاسية على أكثر من مستوى، كما هو الحال بالنسبة لنساء بسيدي مومن، حيث وقفت «الاتحاد الاشتراكي» على بعض من تفاصيل يومياتهن في عدد من أرصفة هذا الحي.
سيدي مومن اليوم ليس هو نفس الحي الذي كان عليه بالأمس، فملامح العديد من شوارعه تغيّرت، وأضحت عدد من الإقامات السكنية المكونة من مجموعة من الطوابق من بين عناوين التغيير العمراني التي شهدتها المنطقة التي تمدّدت، لكن بالمقابل ظل الفقر حاضرا وبقوة، تدلّ عليه الكثير من المشاهد، وتكشف عنه الكثير من الأعطاب التي يستمر حضورها في المنطقة. في سيدي مومن الذي عاش صدمة في يوم من الأيام، يتواصل حضور البؤس والفقر إلى جانب «الرخاء» الذي يعيشه البعض، وتعتبر أرصفة العديد من الشوارع والأزقة شاهدة على حرمان تتنفسه الكثير من الأسر، وهو ما تؤكده قسمات وملامح وجوه نسوة اخترن عرض سلع بسيطة، لعل العائد من بيعها يسدّ لهن بابا من أبواب الخصاص.
في أحد شوارع سيدي مومن، اقتربت الجريدة من إحدى البائعات التي تفترش الأرض وتعرض سلعتها البسيطة عليها، ويتعلّق الأمر بسعاد «اسم مستعار» تبلغ من العمر 55 سنة، تجاذبنا معها أطراف الحديث بصعوبة فقد كان لها موقف ساخط من بعض التعاطي الإعلامي مع الموضوع ومع المشاكل الاجتماعية للفقراء حسب تعليقها، وبعد نقاش مطول طرحنا عليها بعض الأسئلة، فأجابت قائلة «منذ سنوات وأنا لا أعرف القيام بشيء سوى البيع بالاعتماد على ( الفرّاشة ). أنا أرملة وأم لأربعة أولاد، وفي ظل غياب أي مُعيل أو أي دعم من أي مؤسسة أو جمعية تساعد النساء في وضعية صعبة (كالمطلقات والأرامل) اضطرت للنزول للشارع للعمل بكل شرف»، وأضافت المتحدثة «إعتدت التسوق وشراء بضائعي من منطقة درب السلطان، وبالتحديد من كراج علال والنواحي، والمتمثلة في ملابس نسائية بسيطة، ومواد تقليدية طبيعية كالكحل والسواك والزيوت ومستلزمات الحمام التقليدي»، موضّحة أنها تقوم باقتناء ما تحتاجه لتعيد بيعه يومي الأربعاء والسبت.
واصلت «سعاد» الحديث عن تجربتها وعن معاناتها واشتكت من الزيادات التي تلاقيها من عدد من تجار كراج علال في كل مرة تقصد المنطقة لاقتناء سلعها حيث تجد أن الثمن قد ارتفع عن المرة التي سبقتها، وهذا ما يسبب لها عجزا في ضبط أمورها المادية. التقطت المتحدثة أنفاسها بشكل يظهر بأنها تتحدث وفي قلبها غصّة ألم وأضافت «أعيش وضعية مزرية منذ شهر رمضان الفارط، ولا زالت العديد من السلع المعروضة لم تجد طريقها للبيع منذ شهور، وهو ما حرمني من العيد أنا وأطفالي»، مضيفة بلغة ساخرة وهي تضحك ضحكة تختزن الكثير من الألم «أنا كنشري السلعة ديالي كلها بألف درهم ومكنبيع والو والرجا فالله…».
حال سعاد تبيّن لنا بأنه نفس حال العديد من نسوة سيدي مومن اللواتي يمتهّن البيع بالتجوال أو ما يعرف بـ «الفرّاشة» واللواتي التقينا بهن وتحدثنا إليهن، كما هو الحال بالنسبة لنادية «اسم مستعار»، التي وجدناها في شارع آخر من شوارع المنطقة، والتي تحدثت بكل رحابة صدر وطلاقة قائلة بأن « توقيت عمل الفرّاشات العادي واليومي يمتد من بعد صلاة العصر إلى التاسعة مساء، وخلال الصيف يمكن أن يمتد للحظات أخرى، خلافا للأيام التي سبقت عيد الأضحى، لأن معظم النساء كنّ يحضرن للشارع حتى في الفترة الصباحية من التاسعة إلى العاشرة ليلا أملا منهن في بيع بضائعهن وكسب مبالغ قد تساعدهن لتجاوز لحظة العيد». واصلت «نادية» حديثها للرد عن سؤال يتعلق بإشكالية الاستقرار والبدائل والتدخلات التي قد تسجل ضد الباعة الجائلين فأجابت «نحن نعرض سلعنا المختلفة ونسعى للكسب الشريف، ونحرص على الحفاظ على كرامتنا، وتقوم بعض الجهات المسؤولة مشكورة بتأمين مكان لنا لكي نمارس عملنا بطريقة منظمة وآمنة بعيدا عن مشاهد الهرب وتغيير الأماكن خوفا من مصادرة السلع»، وما إن وصلت إلى هاته النقطة حتى ارتفع صوت بائعة قريبة منها كانت تتابع حوارنا مقاطعة إياها وهي تصرخ داعية إياها إلى الصمت بشكل صادم، وهو ما امتثلت إليه المعنية في الحين وأنهت بذلك كلامها معنا، بالمقابل عبّرت السيدة الأخرى عن غضبها وسخطها منتقدة في كلامها بعض الجهات المسؤولة والجمعيات وحتى وسائل الإعلام؟
غضب لم يحل بيننا وبين محاولة التواصل مع المعنية بالأمر، وحثها على الحديث والتعبير والإفصاح عما يعتصر قلبها من ألم، وبعد مدة، أفصحت منتقدة ما وصفته بـ «الوعود الزائفة والمغرية التي تم تقديمها لهؤلاء النسوة مرّات ومرّات والتي تتبدد وتنتهي مع انتهاء محطّات بعينها» مؤكدة بالقول « نحن نعتمد فقط على الله وعلى أنفسنا فقد فقدنا الثقة والأمل في العديد من الجهات التي تستفيد من معاناتنا ومن آلامنا، وستواصل كل سيدة منا كدّها وسعيها لإعالة أسرتها والله معنا».
تصريحات وجمل وتعبيرات، كانت ناطقة وشاهدة على وجه آخر لـ «الفرّاشة»، يختلف عن صور كرّسها البعض بسلوكات غير أخلاقية وغير مسؤولة، تنطلق من احتلال الملك العام وتنتهي بالأذى اللفظي والمعنوي، تؤكد على أن هذا النوع من البيع يظل طوق النجاة الوحيد بالنسبة لشريحة مهمة من المجتمع التي هي في حاجة إلى الاعتناء بها والحفاظ على كرامتها وتوفير سبل العيش الكريم لها.
صحفية متدربة