لا أحد يختلف على أن للسينما الإيرانية جماليتها ومكانتها الخاصة، وذلك بفضل مخرجين كبار أبدعوا ليمنحوها هذه الحظوة وجعلوها ترقى إلى مستوى العالمية أمثال عباس كياروستامي، جعفر بناهي، أصغر فرهادي وكذلك محمد رسولوف الذي شكل فيلمه الطويل “بذور شجرة التين المقدسة” يوم الخميس 5 دجنبر، محطة بارزة في أيام المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، الذي نظم في الفترة ما بين 29 نونبر و7 دجنبر الجاري 2024، تناول فيها المخرج الأحداث الدرامية التي شهدتها إيران عقب مطالبة النساء بحقوقهن والقمع الشديد الذي تعرضن له من قبل السلطات بعد أن تلقى رجالها الضوء الأخضر من قبل التيارين المتشدد والمعتدل على حد سواء.
كانت تلك الأمسية التي عرض فيها الفيلم في فقرة “Gala” استثناء من حيث الحضور الجماهري بقصر المؤتمرات، التي امتلأت عن آخرها، وأقفلت الأبواب في وجه من لم يسعفهم الحظ في المتابعة.
يحكي الفيلم قصة عائلة تتألف من أربعة أفراد، الأب يترقى إلى رتبة قاضي التحقيق بالمحكمة الثورية، والأم تعمل في البيت وتلعب دورا مهما في خلق التوازن بين زوجها القاضي وابنتيها اللتين يتابعان الحراك الشعبي بتعاطف بالغ عبر شبكات التواصل الاجتماعي..
في إحدى اللحظات يختفي مسدس الأب في ظروف غامضة.. فيدور الفيلم حول محاولة إيجاده، وبعد نفاذ كل المحاولات اللطيفة واليائسة، قرر الأب إخضاع زوجته وابنتيه للتحقيق، وحبسهن في بيت قروي حتى يعترفن بالسرقة.. أخيرا اعترفت البنت البكر أنها هي من سرقت المسدس، لكن لم تجده في المكان الذي وضعته فيه، مما جعل الوالد في حالة نفسية جد مضطربة، بعد أن كان الشخص الهادئ، الأب المثالي، الراعي لعائلة طبيعية، فيتحول إلى رجل أمن لا يميز بين أبوته ووظيفته الأمنية والقضائية.. يخضع لجملة من الضغوط في عمله الجديد بعد ترقيته إلى رتبة قاضي التحقيق بالمحكة الثورية.
تفر البنت البكر وأمها من الاعتقال بفضل البنت الصغرى السارقة الفعلية للسلاح، وتبدأ المطاردة في مكان مخيف يأوي بيوتا قديمة ومهجورة، فتنتهي المواجهة بمصرع الأب في مشهد درامي لم يكن في الحسبان..
بغض النظر إن كان الفيلم يروج للإساءة في حق النظام الإيراني، كما تدعي بعض الأقلام المنتقدة، و تماهيه مع الرؤية الغربية المنافقة في محاولة اللعب على وترة الحقوق المدنية من أجل الحصول على الدعم المادي والمعنوي، والفوز كذلك على جوائز قيمة في مهرجانات دولية، إلا أن العمل الفني الذي قدمه محمد رسولوف هو من الأعمال السينمائية النادرة التي لا ترتكز فقط على الفرجة والمتعة البصرية، بل تتعداه إلى تمرير رسائل سياسية تكشف عن خروقات النظام وتجاوزاته في حق شعبه التواق للحرية.
هذا النوع من الإلتزام الأخلاقي لمحمد رسولوف تجاه الوضع الحقوقي والسياسي ببلده إيران، يطبع العديد من إنتاجاته السينمائية مثل “المخطوطات لا تحترق” (جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين) “لا وجود للشر” (جائزة الدب الذهبي بمهرجان برلين السينمائي) “رجل النزاهة” (جائزة نظرة ما بمهرجان كان) “جزيرة الحديد” “وداعا”..
لهذا وعلى خلاف المخرجين العالميين الآخرين، فقد تعرض محمد رسولوف إلى الاعتقال ثلاث مرات بسبب أفلامه التي يكشف من خلالها دائما عن عورة نظام الملالي.. إلى أن غادر إيران خلسة متوجها إلى أوروبا، ليعود بفيلمه الأخير “بذور شجرة التين المقدسة” والذي سبق أن تم عرضه في الدورة الماضية لمهرجان “كان” السينمائي.
وقد خلف فيلم رسولوف بمهرجان الفيلم الدولي بمراكش نقاشا عميقا، واختلافا في التحليل والرؤى والقراءة الفيلمية، حيث اعتبره البعض ربورطاجا أكثر من كونه شريطا سينمائيا، خاصة وأنه معزز بمقاطع فيديو يوثق أسلوب القمع الذي تعرضت له المظاهرات في الشوارع العامة على إثر وفاة شابة إيرانية من أصول كردية تم تعذيبها من قبل شرطة الأخلاق التي ادعت في بيان لها أنها توفيت جراء سكتة دماغية، وفي المقابل خلف هذا العمل انطباعا طيبا لدى العديد من النقاد الحاضرين بالمهرجان، واعتبروه فيلما غنيا بالأفكار والإيحاءات والدراما والمتعة السينمائية..
ومن وجهة نظر شخصية، إذا أعدنا مرة ثانية مشاهدة الشريط الطويل (166 د) بتجرد وبعيدا عن كل الخلفيات السياسية والعاطفية، فسنتحقق فعلا من أن “بذور شجرة التين المقدسة” دراما مبنية على أحداث حقيقية، تتوفر فيها جميع مقومات النجاح والحبكة السينمائية المطلوبة، وتسرد تفاصيل عميقة عن سلوكيات السلطات الإيرانية في تعاطيها مع المطالب الشعبية، وذلك من خلال أربعة أفراد من عائلة واحدة.
في هذا العمل، جسد المخرج رسولوف النظام الإيراني في الأب (إيمان) وأعطى صورة عن الوضع النفسي ولجيل جديد من الشباب الإيراني، منفتح عن العالم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وغير مؤمن بالعزلة التي فرضت عليه قسرا من قبل نظام المرشد الأعلى..
مشاهد مؤثرة وأحداث متسلسلة يرسمها المخرج حتى تكتمل الصورة لدى المتتبع، وتعطيه الانطباع على أن هذا النوع من الأنظمة لا يمكن لها الصمود أمام إرادة الشعوب المحبة للحرية والسلام.