طفل جميل، زينة وروعة أمه الساخطة عن الأوضاع. منتقمة من نفسها ومن أمها ومن سر وجودها العشوائي، استحضرت براءة فلذة كبدها وحقه في الحياة، وتشبثت بالحفاظ عليه في رحمها إلى ساعة الإنجاب. لقد اعتبرت أن لا قيمة لحياتها بدونه لأنه أصبح، منذ الصيحة الأولى بالنسبة لها، شاهدا على واقع اجتماعي وثقافي قاس لا يرحم، وفي نفس الوقت شكل لوجودها رمز الأماني والعطاء والأمل في غد ثقافي وإنساني أفضل. أنكر حبيبها انتسابه إلى صلبه بسبب قساوة الحياة. منحته اسمها العائلي، وهو نفس الاسم الذي تحمله أمها وخالاتها وأخوالها وجدها من جهة الأم.
في يوم مشمس من فصل الربيع، وهو يلعب تحت مراقبتها الزاخرة بالحنان في حديقة ألعاب الأطفال في مدينة بشمال المملكة، عادت بها الأيام إلى الذكريات الأليمة. شككت في أن يكون سبب وجوده نزوة. تذكرت كيف اختلطت عليها الأمور في يوم ممطر تحت سطح غرفة مزخرفة بألوان الأضواء المختلفة وجذابة بس
مفونية موسيقية غربية هادئة. غادرت بإصرار وإرادة مآسي الحياة باحثة عن لذة ولوعة وجودية قصوى، لتستسلم لحب ذكوري فاقد القدرة المادية على تحمل المسؤولية. أنجبته مجهول الأب، وسمته عيسى مستحضرة مآسي مريم العذراء رضي الله عنها. لقد جنت على طفلها بنفس الطريقة التي جنت عنها أمها. لقد عاشا الحب الولهان، وتكرار لحظات المتعة الزاهية، وهزيمة الاستسلام للذتين عارمتين تلقحت خلالهما بويضتان في رحمي أم حنون ثم بعدها ابنتها الساخطة على شروط وجودها لحظة الولادة وأثناء تراكم سنوات عمرها. أحاط العذاب النفسي بالأم العازبة زمانا ومكانا، لتتفاعل المصائر، وتتكاثف رغبات الصمود، طامحتين في أن يعيش عيسى ظروف إنسان بريء بنفسية طبيعية تخول له الدخول في عالم غمار المنافسة تجسيدا لمقاصد الأبيات الشعرية التي رددها الحجاج ابن يوسف الثقفي أمام حاشيته منوها بفصاحة الأطفال الثلاث الذين سلموا من عقوبة قطع الرؤوس:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا ** يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول ها أندا *** ليس الفتى من يقول كان أبي
اسم أم عيسى قديم وغريب اختارته لها أمها كنزة. لم ترضاه لنفسها منذ أن وعت بترديد نطقه على مسامعها، وصرحت لصديقاتها وأصدقائها أنها لن تدخر جهدا من أجل المطالبة باستبداله قضائيا. لقد تم التصريح بولادتها مجهولة الأب. تمسكا بها وعدم استسلام أمها في مرحلة أولى لدعوات إجهاضها ووأدها مضغة، وفي مرحلة ثانية لضغوطات التخلي عنها، التي انبعثت يومئذ بقسوة وكراهية وبحدة هيستيرية من أفراد وجماعات محيطها القريب والبعيد، وحبا في عاشقها الذي أبى بهلع أن ينسب المولودة إلى صلبه، أنجبتها على الساعة الثالثة ليلا في مستشفى مدينة بعيدة عن سكناها وأهلها، واختارت لها اسما شخصيا قديما “العارفة بالله”، معتقدة أن هذه التسمية قد تؤثر مستقبلا على عشيقها وأب ابنتها البيولوجي المنتمي إلى خدم إحدى الزوايا الدينية البسطاء. استشارت العارفين، ومنحتها اسمها العائلي بعد موافقة أبيها عبد الغفور الذي كان يحبها بجنون.
اقترب موعد ولادة عيسى بأيام معدودات. كان اليوم يوم جمعة من أيام بداية فصل الصيف. امتطت ليلا، هي وأمها، القطار المتوجه إلى مدينة سيدي سليمان حاملة لوازم المكوث هناك في العراء إلى أن يشتد عليها وجع الولادة. عند وصولها، ارتكنا في مكان آمن قرب باب المحطة. قضوا يومين ونصف، فبدأت النغزات والوجع ينتابا أحشاءها. أعادت حساب أيام حملها، وأحست بعزم عيسى على الخروج إلى الحياة في تلك الليلة. توجهت إلى المستشفى، وأنجبت مولودها الذي أبهر بنوره المولدات، لتتفاقم معاناة واقع ثقافي تتقاذف منه أسهم نظرات احتقارية وجارحة وقاسية قاتلة.
أم عيسى، أي “العارفة بالله”، لا يتجاوز عمرها اليوم بداية العشرينات. لا زالت في مقتبل العمر، وتطمح في حياة تليق بجمالها وبهائها. أمها تزوجت وأنجبت أطفالا. زوج أمها لا يكل ولا يمل من لومها معاتبا إياها على منح اسمها العائلي لابنتها، مرددا على مسامعها كل مرة ضرورة العمل على استشارة المختصين والقيام باستبدال هذا الاسم المعبر عن الإساءة والعار له ولأبنائه. يطالبها كل يوم بأن تقوم بما يلزم لكي لا ينعته محيطه بكونه تزوج امرأة فاسدة لها بنت مجهولة الأب. أما عندما انضاف عيسى إلى لائحة أطفال العائلة، تعقدت وضعية “العارفة بالله”. بنفس العقدة النفسية التي كبست أنفاس زوج أمها، وخوفا من تهكم المحيطين العائلي والسكني، أزواج خالاتها بدورهم رفضوا احتضانه أو التكفل به وهو يحمل اسمهن العائلي.
عندما اشتد الضغط والتوتر بيوت الزوجية لكل من أمها وخالاتها، استيقظت مبكرا، امتطت القطار مجددا، وتوجهت إلى المصالح المختصة موجهة طلبها المدعوم بالوثائق الضرورية إلى اللجنة العليا للحالة المدنية ملتمسة مساعدتها على استبدال الاسم العائلي لابنها بأي اسم من كشاف الأسماء العائلية المغربية. الأهم بالنسبة لها هو أن تغيره عن اسم أمها وأخوالها وخالاتها. إنها التسمية التي تسبب لابنها أضرارا بليغة، التسمية التي جعلتها لا تمل ولا تتعب في البحث عن وساطة أو تدخل لكسب عطف السلطات المركزية لقبول طلبها وتسريع الاستجابة له، وبالتالي الاطمئنان على حماية فلذة كبدها من الضياع والسقوط في وضعية إهمال. لقد أسرت للعديد من المسؤولين أن فرحها كان عارما عندما علمت بعزم الدولة على تمكين ابنها من إضافة اسم الجد من جهة الأب، موضحة أن نجاحها في تغيير الاسم العائلي لابنها سيمكنها من حمايته بالانتقال مثلا للسكن في مكان آخر وإخبار جيرانها وسائليها الجدد أنها مطلقة أو أرملة. في نفس الوقت لن يجد أزواج كل من أمها وخالاتها أي ذريعة لنهر زوجاتهم، ورفض احتضان أو التكفل بابنها البار.