منذ البداية لم يترك لنا «عبد الحميد البجوقي» فرصة لالتقاط الأنفاس والاستعداد للغوص في سفره الجديد الذي اختار له عنوانا «هسيس الغرباء». ألقى بنا في حضن أبي العلاء المعري، وهو ينصب لنا فخا جميلا، حيث أجبرنا على البحث عن معنى كلمة «الهسيس» التي ورد ذكرها في بيت المعري. كما لو أنه يدعونا للعودة لرسالة الغفران أو ربما يهيئنا لطلبه على صمتنا على جريمة ما. ربما كانت آذاننا صماء لأننا لم نسمع أنينا وضجيجا وصراخا أطلقته حناجر قوافل الأفارقة بالقرب منا.كأن البجوقي يتهمنا بالمشاركة في الجريمة بصمتنا.
ليس هذا هو الفخ الوحيد الذي نصبه لنا البجوقي في روايته الجديدة، بل هناك فخ آخر لا يقل جمالا عن سابقه. يبدأ البجوقي فصول الرواية بوصف الأجواء بطريقة روائية لا تخلو من شاعرية، السماء صافية، الجو ربيعي، الساعة تشير إلى الحادية عشر… يسافر بنا في لوحة هادئة وفجأة يلقي بنا في جنوب السودان، وقضية اللاجئين ومنظمة «أطباء بلا حدود»، ونجد أنفسنا نشاهد محاولات جحافل الأفارقة وهم يحاولون العبور إلى مليلية قادمين من المغرب. ليست تهمني في هذا المقام مضامين الحكايتين اللتين شكلتا محور الرواية «حكاية أنطونيو وحكاية خديجة»، شخصيتان وحكايتان سنكتشف لاحقا أنها حكاية واحدة. ليست تهمني هنا تفاصيل القصة بقدر ما أثار انتباهي قدرة البجوقي على التعبير عن العديد من المشاعر دفعة واحدة.فالهسيس هو الصوت الداخلي الخافت للهوية المشروخة. والغرباء هم نحن حين لا نجد مكانًا…في «هسيس الغرباء” يقترح البجوقي بسلاسة وهدوء الشاعر الذي يسكنه وانسيابية الحكي التي يتقنها، وبقدرة الروائي على تصوير مشاهد القسوة ببشاعتها، يقترح أن تكون شخصياته هي الصوت الخافت لهؤلاء الذين اكتشفوا أنهم بلا وطن، ولا حتى في الذاكرة، واللغة، وبلا وجه ينعكس في المرآة.
لقد تعددت المشاعر في النص بتعدد المشاهد، على الرغم من أن البجوقي يجعلنا ثابتين كما لو أننا في مشهد واحد أو لوحة واحدة يمكن اختزالها في كلمتين اثنتين تحملان معنى واحدا نهاية الانسان. رغم أن البجوقي يستخدم أسلوبا سرديا متقنا، حيث يُقسم الرواية إلى مشاهد قصيرة تشبه اللقطات السينمائية، مما يضفي على النص ديناميكية ويساعد القارئ على التفاعل مع الأحداث بشكل أكثر حيوية. كما يُوظف تقنيات مثل التقطيع الزمني وتعدد الأصوات السردية، مما يثري التجربة القرائية ويُعزز من عمق الشخصيات والأحداث.
لقد جعلنا الأستاذ عبد الحميد نتقلب بين الضياع والتمزق والغضب والخوف والفراغ، باعتبارها مشاعر من يكتشف أنه بلا وطن. الضياع لأنه جعلنا نشعر مع أنطونيو كأنه يسير بلا خريطة. لا يعرف إلى أين ينتمي، فهو يشتاق إلى «مكان ما» لا يعرف إن كان موجودًا أصلًا.
والتمزق لأنه بقي عالقا بين شخصيتين أنطونيو الذي عاشه وأنطونيو الذي لم يعشه بل اكتشفه من خلال حكاية خديجة، بين ثقافتين، بين ماضٍ لا يعود ومستقبل لا يبدأ. يرى في كل مكان شيئًا ناقصًا، ويرى في نفسه شيئًا زائدًا لا يقبله أحد. والخوف والقلق و»اللاأمان»، لأن الأمان في الأصل مرتبط بالانتماء. فهو يخاف أن يُرفض دومًا، أن يبقى طارئًا، أن يكون جسدًا بلا جذور.أما الغضب فغضب على وطنٍ لفظه، وغضب على وطنٍ لم يعترف به، وغضب على ذاته لأنها صدّقت أن هناك وطنًا سيحتضنها مما أدى به إلى الإحساس بالفراغ. فلاجذور، ولا مرجعية، ولا بيت داخلي يعود إليه. لقد أصبح مثل ظلّ لا يتبعه جسد.
ليس أنطونيو وحده بل شخصيات كثيرة …انطونيو هو مجرد كناية عن كل مهاجر أو مُهَجر، كناية عن الذين تسلقوا السياج رغم أنه لم يهاجر عبر السياج، بل هُجٍرَ نتيجة وهم حماية الشرف. كناية عن الذين حتى وإن قدرت لهم النجاة والوصول إلى الضفة الأخرى، فإن أسئلة القلق والضياع والتمزق والفراغ ستلاحقهم. لأنهم سيطرحون نفس الأسئلة ولن يجدوا أجوبة تشفي غليل أرواحهم. كل واحد منهم سيكتشف أنه لا يعرف لِمَ يُدعى لاجئًا. فقدَ الوطنَ الأول حين أُجبر على الرحيل، وفقد الثاني حين صمت الجميع عن اسمه. في الليل، كانت أحلامه بلا عنوان، وفي النهار، كان صوته بلا صدى. لم يكن منفيًا… بل كان بلا مكان يُنفى منه. فاكتشاف أنطونيو أنه في شخص آخر غير أنطونيو الذي يعرف هي لحظة مفصلية في الرواية، تمكن البجوقي من توظيفها بوصفها تحولًا داخليًا عميقًا وصدمة وجودية. فعندما يكتشف المهاجر أنه في الوطن، فإن هذا يعني أن الوطن لم يعد ذلك المكان الجغرافي، بل هو شعور وحالة نفسية.وعندما يكتشف أن البلد الذي هاجر إليه ليس مختلفًا كثيرًا عن وطنه في القمع أو الظلم أو التهمي، فسيصبح في مواجهة ما يمكن تسميته بخيانة التوقعات. لقد كان المهاجر يظنّ أن الوطن الجديد هو الخلاص، فإذا به يشبه الوطن القديم في القسوة، فيرفض الواقع ويشعر بالخذلان. فالحلم بالهجرة سقط، وتبين أن الجغرافيا لا تُنقذ من الألم. فحين دوّى الهتاف في الشارع، وحين انطفأ وجه الشاب المهاجر «أمير» في ضوء القنابل، عرف أنه لم يغادر وطنه. الوطن كان الجرح، فأزمة الهوية هي جرح عميق يمكن أن نقول إن البجوقي نسج حوله روايته»هسيس الغرباء» ببراعة، خصوصًا في سياق معاناة المهاجرين والغرباء. فهي ليست أزمة أوراق أو جنسية فقط، بل أزمة انتماء، وذاكرة، وانقسام داخلي بين عالمين.
إن أزمة الهوية كما أعتقد أن الكاتب حاول تصويرها تمثل حالة اضطراب داخلي يعيشها الإنسان خصوصا المهاجر عندما يشعر بأنه لا ينتمي بالكامل إلى أي مكان لا إلى وطنه الأصلي الذي غادره، ولا إلى البلد الجديد الذي لفظه. فالمهاجر دائم الشعور باللاانتماء: فهو لا يشعر بأنه «ابن» للوطن الجديد، كما أن الوطن القديم لم يتّسع له.فيصبح كمن يعيش على «الحدود الوجودية». وهذا ما يصر البجوقي على الانتباه إليه، فهو يحب أن يصنف نفسه في أدب ما بين الضفتين.
لقد استعمل لغة ممزقة، في الرواية مفارقة عجيبة صاغها البجوقي ببراعة، الحنين والرفض، فأنطونيو يحنّ إلى وطن يسكنه لكنه يرفض أي واقع جديد سيجعله يشعره بأنه «غريب»، ولو أقام فيه لسنوات. ففي الصفحة 34 مشهد قد يبدو عاديا للوهلة الأولى، لكنه مشهد يكثف ما يمكن اعتباره تجليا لتوتر بين الذاكرة والإنكار:
« يقول أنطونيو مخاطبا صديقه
أجداد من عزيزي؟ أجدادنا ليسوا من هذه الأرض؟
هذه العبارة لوحدها تشكل مشهدا سرديا يعكس التوتر بين الذاكرة الجماعية والإنكار الرسمي والشعبي للهوية الأندلسية في إسبانيا.فأنطونيو بهذا السؤال ينكر أصوله الأندلسية الإسلامية، وهو إنكار يحمل في طياته دلالات ثقافية وسياسية عميقة. فهو يعكس تاريخا من الطمس والتجاهل المتعمد للماضي الإسلامي في الذاكرة الرسمية الإسبانية، وهو في الوقت ذاته مؤشر على انقطاع في الذاكرة الجماعية التي تربط بين المغرب والجزء الجنوبي من إيبيريا عبر التاريخ الأندلسي المشترك.
لقد عبر البجوقي في «هسيس الغرباء» عن قدرة عالية على استثمار الوقائع الحقيقية، وإقحامها في المتن الروائي. فاقتحام معبر مليلية من قِبل مهاجرين أفارقة هو حدث متكرر يعكس عمق المعاناة الإنسانية التي يحاول عنوان «هسيس الغرباء» تجسيدها. هذا النوع من المحاولات لا يُختزل فقط في مشهد اقتحام جماعي، بل يحمل في طياته طبقات من القهر، واليأس، والأمل المكبوت في حياةٍ أفضل. فهذا الحدث هو واحد المشاهد المحورية أو الخلفيات السردية في الرواية، يحمل رمزية قوية:فهو حاجز مادي ونفسي. فالمعبر يمثل الحدود الفاصلة بين «عالمَين» بين الفقر والأمل، الجنوب والشمال، الجحيم والفرصة.
ورغم أن المحاولة كانت جماعية إلا أن الكاتب جعلها تعبيرا عن رغبة في خلاص فردي صامت. فكل مهاجر يحمل «هسيسه» الخاص وقصته الخفية لا يسمعها أحد. كما أن حكاية خديجة التي احتجزها والدها بعد أن تعرضت للاغتصاب هي استثمار ذكي لجريمة حقيقية شكلت صدمة عندما فجرتها وسائل الإعلام الوطنية والدولية.
إن البجوقي في رواية «هسيس الغرباء» تمكن كعادته من طرح مواضيع الهجرة والهوية والاغتراب لا كمواضيع ثانوية، بل كمرتكزات بنيوية تعكس قلقه الخاص، وباعتبارها مجالا لصراع الذاكرة والنسيان وتجليا للتوتر بين الانتماء والرفض. لا شك أن تجربته الشخصية في المنفى ساعدته ليصوغ فضاءاته ليطرح أسئلة الهوية بصيغة مركبة ومفتوحة على احتمالات التأويلات المتعددة.
بقيت إشارة أخيرة، وهي المتعلقة بالإهداء، إذ عادة ما يكون الإهداء في بداية النص، إلا أن البجوقي شد عن هذه القاعدة بأن جعل الاهداء في آخر الرواية وعبارة عن نص وليس مجرد كلمة أو كلمتين. لقد أهدى البجوقي الرواية إلى خديجة تلك الروح المعذبة التي لم ينصفها الزمن. ولم تنقذها العدالة ولم تحمها القلوب التي كان ينبغي أن تكون ملاذها… يقصدنا نحن طبعا. الذين صمتوا حين وجب الصراخ، والذين صمت آذانهم حين وجب الاستماع. ختم الرواية بإهداء حتى تكتمل الصورة ويكون الإهداء كالاعتذار والإدانة معا. يقول في خاتمة الاهداء والرواية معا: «إلى خديجة، التي صارت رمزا لكل امرأة سجينة القهر والصمت، وإلى كل الأرواح التائهة في المنافي القسرية، وإلى ضحايا الهجرة غير النظامية، والاغتراب داخل الوطن وخارجه، أهدي هذا النص الروائي علّه يكون شاهدا على من لا شهود له، وصوتا لمن صودرت أصواتهم».
بروايته «هسيس الغرباء» .. البجوقي يعيد قضايا الهوية ومعاناة المهاجرين إلى الواجهة

الكاتب : عبدالإله ابعيصيص
بتاريخ : 12/06/2025