لم يتوقف المجلس الأعلى للحسابات منذ سنوات عن دق ناقوس الخطر منبها إلى الاختلالات العديدة التي تتخبط فيها المنظومة الصحية، وذلك عبر إصدار تقارير مفصلة تكشف اختلالات هيكلية في تدبير قطاع الصحة بالمغرب، دون أن تعيرها الحكومة أدنى. فالتقارير الصادرة بين 2018 و2024 ظلت تسجل بوضوح استمرار العجز في البنيات التحتية والتجهيزات، وضعف التكوين والحكامة، وتفاقم الفوارق بين المجالين الحضري والقروي، في وقت ظلت الحكومة عبر وزارتها الوصية تتخندق في الدفاع وتبالغ في تقديم تفسيرات شكلية أو تتذرع بعوامل خارجية لتبرير الوضع القائم كما لو أنها مستهدفة ظلما من طرف قضاة المجلس الأعلى للحسابات.
المثال الصارخ في هذا الباب (والذي كان سببا مباشرا في انطلاق شرارة المظاهرات الغاضبة من أكادير بعد وفاة أزيد من 10 أمهات في قسم الولادة بمستشفى المدينة) هو ما نبه إليه للمجلس الأعلى للحسابات، الصادر سنة 2023، والذي أورد معطيات دقيقة حول الوضع الصحي، مؤكدا أن معدل وفيات الأمهات بلغ 111 وفاة لكل 100 ألف مولود حي، مقابل 44 في المجال الحضري، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف. كما أشار إلى أن معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة بلغ 16.3 في المائة في الوسط القروي، مقابل 11.2 في المدن. المجلس أوضح أن هذا التفاوت يرتبط بمحددات اجتماعية وصحية لم تنجح السياسات الحكومية في معالجتها رغم البرامج المعلنة، وأن وزارة الصحة، في جوابها، أقرت بوجود الفوارق دون أن تقدم خطة واضحة لتجاوزها.
ووفقا للبيانات الرسمية للمجلس الأعلى للحسابات، لم يتجاوز معدل تنفيذ التوصيات الصادرة عن المجلس في مجال الصحة 18 في المائة بشكل كلي و42 في المائة بشكل جزئي، فيما لم يتم تنفيذ أكثر من نصفها إلى اليوم. وتشمل هذه التوصيات غير المنفذة مراجعة آليات القيادة والتنسيق داخل وزارة الصحة، وإحداث بنية خاصة بالتتبع والتقييم، وتطوير المستشفيات العمومية لرفع قدرتها الاستيعابية في إطار ورش التغطية الصحية الشاملة. هذه الأرقام تعكس محدودية تجاوب الحكومة مع المؤسسة الدستورية المكلفة بالمراقبة المالية، رغم التحذيرات المتكررة من تفاقم الأعطاب البنيوية في المنظومة الصحية.
التقارير الأخيرة للمجلس، الصادرة بين 2018 و2024، سجلت بوضوح استمرار العجز في البنيات التحتية والتجهيزات، ونقص الموارد البشرية، وضعف الحكامة، إلى جانب تفاوت مجالي صارخ في مستوى الخدمات بين المدن والقرى.
المجلس سجل كذلك ومرارا خصاصا هيكليا في التجهيزات الأساسية داخل مؤسسات الولادة والمراكز الاستشفائية، إذ رصد غياب غرف الفحص والعمليات والحاضنات في عدد من المستشفيات الإقليمية والجهوية، من بينها مستشفيات إنزكان وتارودانت وسيدي سليمان، ومستشفيات القرب في الرماني وتيفلت وسوق الأربعاء، إضافة إلى غياب وحدات حديثي الولادة في مستشفيات أكادير والرشيدية والداخلة. وأوضح التقرير أن هذا النقص الحاد في التجهيزات ينعكس سلباً على جودة الخدمات ويزيد من المخاطر المرتبطة بالولادة في الوسط القروي.
كما وقف المجلس على تدهور حالة عدد من البنايات الصحية، حيث سجل تسربات مائية وانقطاعات كهربائية متكررة وضعفا في الصيانة في مؤسسات من بينها مستشفى الولادة بالقنيطرة، ودار الولادة بعين عودة والصخيرات، والمستشفى الجهوي ببني ملال ومستشفى وادي زم ودار الولادة بأفورار. وأضاف أن عددا من المراكز لا تتوفر على شبكات توزيع السوائل الطبية، ما يشكل خطرا مباشراً على سلامة المرضى.
من جهة أخرى، أكد المجلس أن النقص في الموارد البشرية يشكل أحد أبرز أوجه الاختلال. فمعدل الأطباء المتخصصين في مراكز الإدمان لا يتجاوز 0.82 طبيبا لكل مركز، ونسبة الأخصائيين النفسيين لا تتعدى 0.09. كما أشار إلى ضعف التخطيط في توزيع الأطر الطبية والتقنية على التراب الوطني، وغياب برامج فعالة للتكوين المستمر، رغم الالتزامات المعلنة في المخطط الاستراتيجي للصحة 2025.
وعلى مستوى الحكامة، أوضح المجلس أن وزارة الصحة لم تضع بعد آلية قيادة وتأطير شاملة لتنسيق برامجها وتقييم أثرها، وأن تنفيذ المخططات الاستراتيجية يتم دون مؤشرات قياس واضحة أو نظام تتبع دوري. كما نبه إلى أن عدد المؤسسات الوسيطة وبدائل الاستشفاء التي تعهدت الوزارة بإحداثها لم يتجاوز خمس مؤسسات على الصعيد الوطني، في حين أن الأهداف المعلنة كانت أوسع بكثير.
التقارير السنوية للمجلس بينت أيضا أن ضعف أداء المرفق العمومي يقابله ارتفاع في هيمنة القطاع الخاص، إذ تشكل نفقات العلاج المقدمة من الخواص 74 في المائة من مجموع النفقات المفوترة في نظام التأمين الإجباري، مقابل 26 في المائة فقط للمستشفيات العمومية. وهو ما يبرز، حسب المجلس، فقدان المستشفى العمومي لمكانته كمكون أساسي في السياسة الصحية الوطنية.
ورغم وضوح هذه الملاحظات، لم تبادر الحكومة إلى تفعيل التوصيات أو الإعلان عن خطط تنفيذية بمؤشرات زمنية محددة. فإجابات وزارة الصحة، كما أوردها المجلس، ظلت عامة وتقتصر على استعراض برامج قيد الإعداد دون تفاصيل عن نسب الإنجاز. وفي المقابل، تتكرر الاختلالات نفسها في كل تقرير سنوي، من نقص المعدات وضعف الموارد إلى غياب أنظمة المراقبة الداخلية.
وتكشف المعطيات الرقابية أن الأزمة الصحية الحالية ليست ناتجة عن غياب التشخيص، بل عن غياب التفاعل المؤسساتي مع نتائجه. فالمجلس الأعلى للحسابات قدم خلال السنوات الأخيرة قاعدة بيانات دقيقة وتوصيات عملية، غير أن غياب آليات إلزامية لمتابعة التنفيذ جعل هذه التقارير تفقد أثرها العملي. ومع حوادث مأساوية متكررة في بعض المستشفيات، كوفاة عشر نساء في مستشفى أكادير بسبب نقص التجهيز وضعف التكوين، تتأكد صحة ما ورد في تقارير المجلس التي نبهت إلى خطورة الأعطاب الهيكلية في القطاع، وإلى تقاعس الحكومة في اتخاذ التدابير الضرورية لمعالجتها في الوقت المناسب.
بسبب عجرفة الحكومة واحتقارها لتقارير مؤسسات الحكامة ..أكثر من 82 % من توصيات المجلس الأعلى للحسابات حول الصحة لم تُنفذ منذ خمس سنوات

الكاتب : n عماد عادل
بتاريخ : 11/10/2025