بعد أن اختفى طويلا في جبة النظريات .. « أنامل تحت الحراسة النظرية» تسرق علوط الشاعر من الناقد علوط

«لست سيرجي بوبكا
ولا أجيد القفز بالزانة فوق
أكتاف قصيدة
أحد»
هكذا يعلن الشاعر محمد علوط في ديوانه الأول « أنامل تحت الحراسة النظرية» أن قصيدته تقع في المعنى الحقيقي للتجاوز والاختلاف، باحثا عن القصي الذي لم يمسسه إنس ولا جان، غير مترصد لماء ينهمر من غيوم الآخرين.. قصيدة تجعل صاحبها يذهب إلى الحافة مفتوح العينين، يرتمي في أحضان الهاوية باحثا عن هامش وجودي، وحده، تتأسس فيه الكينونات المضمرة.
هي لحظة أدبية وإنسانية رفيعة عاشها كل من حضر اللقاء الاحتفائي بأنامل محمد علوط وبقفازاته الشعرية، يوم السبت 17 ماي الجاري، وقد تحررت من أسر الحراسة محلقة نحو قارئها بقلب سليم وأقدام خفيفة.
هي لحظة احتضنت فيها جامعة المبدعين المغاربة بوح شاعر، بدأ قاصا،قبل أن تلتهمه النظريات النقدية والمناهج، ليعود إلى رشده الشعري، شاعرا ناضجا وضاجا بالمجاز المتكئ على معرفة شعرية وإنسانية نهلت من كل تخوم المعرفة، فلسفة وفكرا وفنا.
علوط الذي قال ذات حوار «أنا صيغة مضاعفة. ناقد هنا وشاعر من زمن آخر»، أكد وهو يجيب عن أسئلة الشاعرة والقاصة ليلى بارع التي أدارت اللقاء باحترافية عالية، أكد أنه كتب هذا الديوان ليتخفف من الوعي والإدراك النقدي بعد أن أنهكه تتبع النصوص، ولهذا فتح هذه النافذة ليعبر هواءٌ جديدٌ الى رئتيه، وليجدد دماءه التي سرقها النقد طويلا.
ولم يخف علوط أن لحظة كتابة الديوان كانت بهدف البحث عن مناطق آمنة نعتقد أن الشعر يمنحها، لكن ما حدث هو أنه اكتشف أن مناطق السكون تخفي في الحقيقة تحتها مأساة، مضيفا أنه في الكتابة لا يمكن إلا، سلك طريقين:
طريق المماثلة أي الكتابة وفق معيار ، وهنا لن يحقق الشاعر أية إضافة، أو طريق الاختيار الواعي بقيمة الوقوف على الحواف الحادة للكتابة، والانصهار فيها كمختبر لتجلي الكينونة الحقيقية للإنسان.
الكينونة التي تحدث عنها علوط، هي المؤسَّسَة على المعرفة وتلاقح التجارب، والتثاقف والبحث عن أراض جديدة للقول الشعري الذي تتراسل فيه الفنون والعلوم والأفكار لأننا كما لفت علوط «نعيش ونعاني اليوم كسادا وكسلا في المعرفة الشعرية وعلينا التفكير في صيغ إحداثية، صيغ تقع في المعنى الحقيقي للتجاوز والاختلاف»، متسائلا في هذا الصدد: «لماذا لا يكون لنا شعر ثقافي مقابل للسرد الثقافي؟».
ولفت علوط في هذا الإطار إلى أن المهم هو التخلص من هذه الطوطميات، حيث لا نقاء لجنس شعري مادام الشعر جغرافيا لا نهائية من التقاطعات على مستوى الكتابة والنصوص والأشكال والعبر نصيات، وباعتباره أيضا توافدا لانهائيا من الفنون، مضيفا أنه « ينبغي الخروج من تلك الذائقة الشعرية المطمئنة والمسرنمة، والتحرر من الكتابة الشعرية التي تشبه التنويم المغناطيسي»، مشددا على أن ديوانه المقبل، إن فكر في خوض تجربة ثانية، سيكون، بالتأكيد، مختلفا عن سابقه، مستبعدا في الآن نفسه اللجوء إلى الكتابة الروائية لأن «المشهد مليء اليوم بالأدعياء في الرواية وقناصي الجوائز».
هل نزع علوط جبة الناقد وارتدى بردة الشاعر؟ هل كان الأول رقيبا على الثاني وهو يركب صهوة التخييل بعد أن رمى أسلحة النقد المنهجي وراءه؟
لا يخفي علوط في هذا الصدد أنه يكتب خارج هذه الثنائية: شاعر/ ناقد، لأن الكتابة لديه «ليست استجابة لرغبة الكتابة في حد ذاتها بل لإلحاح ونداء لا يمكن أن نحدده»، فهو لا يكتب انطلاقا من معيارية للشعر أو القصيدة لأن سلك هذا الطريق لا يمكن إلا أن يقتل الشعر والإبداع معا. ولهذا شبه لحظة كتابته للقصيدة ب»خلع ضرس العقل…ضرس أدعها تخلعني أكثر مما أذهب إليها بأقدام خفيفة». يذهب إليها بنية التدمير، تدمير النمط والنموذج الجاهز، وبكتيبة تتمنطق السرود والسخريات والملاحم، والصور والعلامات، في انقلاب هادئ يؤسس لجمهورية شعرية مغايرة.
إلى أي حد تتقاطع هوية الناقد مع هوية الشاعر؟ وهل يستقيم التصنيف المعتمد من قبل باحثين ودارسين للشعراء المغاربة بناء على مفاهيم الجيل والحساسية والاتجاه.؟
بهذا السؤال أطر الباحث والروائي جمال بندحمان كلمته التقديمية لديوان محمد علوط» أنامل تحت الحراسة النظرية»، مؤكدا أن إبداع علوط» يقع خارج دائرة هذه التصنيفات، بل إنه يفضح ضيقها ومحدوديتها».
ووقف بندحمان في قراءته للديوان على أهم تشاكلاته وتعالقاته، قبل أن يعرج على بناء القصائد وتشكليها، ثم انتقل إلى الاشتغال اللغوي عند محمد علوط، معتبرا أنه لا يشتغل باللغة فقط، بل يشتغل عليها.ولفت صاحب»محنة ابن اللسان» إلى أن الديوان تنتظمه 5 محاور.
1-محور المفارقات، 2- محور العرفانيات،3- محور العتبات الحادة ،4- محورالرومانسية المعطوبة،5-محور التنظير بالشعر .
وفي كل هذه المحاور، أشار بندحمان الى أن الشاعر علوط كان يخضع لرقابة الناقد محمد علوط لسببين: أولهما أن الحقل المعجمي الذي اعتمده مستمد من المجالين القانوني والحقوقي والمدني (بالنظر لتجربة علوط المدنية)، وثانيهما أن الديوان تجاوز توظيف اللغة كأداة تبيلغ ، بل حولها لهدف يتم الاشتغال عليه وتوظيف إيحاءاته المتعددة ، لغة جاور فيها بين الفصحى ولغة التداول اليومي.
ووقف بندحمان على أن تملك علوط لصنعة الإبداع ، جعل بناء كل قصيدة في الديوان، يختلف عن بناء الأخرى.. بناء اعتمد السخرية حينا، والمجاورة المرجعية حينا آخر ، والتضاد الذي لا يعني النفي أحيانا كثيرة، وكل هذه الأبنية تحيل في مجملها شعرية الفكر، وتجعلنا أمام الفضاء المفتوح للكتابة.
وخلص صاحب «يوبا أعراب» إلى أن ديوان «أنامل تحت الحراسة النظرية» هو ديوان مختلف عن المعتاد والمتداول،لذلك فإن حراسته النظرية تواضع من مبدعه الذي كان دوما خارج دائرة التعالي المعرفي أو الطاووسية الزائفة».
بدورها، اعتبرت القاصة والشاعرة ومسيرة اللقاء ليلى بارع أن علوط الشاعر «يكتب بعمق عالمي، نصوصه محبوكة بالتفاصيل الجمالية والمعرفية»، مضيفة انه «لا يستعجل الكلام ولا يتعالى على لغته وتراثه». ولفتت بارع الى أن الديوان «يعكس مسار الخطوات التي مشاها الناقد والشاعر، والكتب التي قرأها ، والرموز التي بقيت عالقة في الخاطر، والحانات التي دخلها وأسفاره في الهنا والهناك».
الناقد والشاعر عمر العسري ، اعتبر في ورقته النقدية، أن محمد علوط يقدم في كتابه الشعري «أنامل تحت الحراسة النظرية» نصوصا مثيرة للحالة الكتابية، ومشدودة إلى نسقها الفكري والتأليفي، نصوص تطرح ثنائية الشعري والفكري في سياق تخليلي.
وأضاف العسري أن خصوصية هذا الشعري في كتابة علوط هو أنها «تنشغل أكثر بالفكر وتوقظ الذكاء، حيث «ذاته لا تنفعل مع الواقع لإعادة صياغته وتشكيله، وإنما تشتغل عليه وتتصرف فيه من زوايا المعرفة والدلالة والتعبير، ما يجعل شعره منفتحا على خيارات ورهانات لا محدودة».
وخلص عمر العسري إلى أن علوط في «أنامل تحت الحراسة النظرية» «لم يكن شاعرا فحسب، وإنما مكتشفا لذاته في الأشياء والعناصر، في جنوحه إلى الأسطورة الفردية، في اقتفائه للحاضر المجازي الذي حوله إلى بنيات أسلوبية تقرأ بحذر، وتبعث على القلق أحيانا، أي أنه لم يكن يكتب بعقلية الفأس أو الحطاب، وإنما بنباهة الغابة».


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 21/05/2025