أسدلت غرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف ببني ملال الستار على واحدة من أكثر القضايا إثارة للغموض والجدل في خنيفرة، بإدانتها مفتش الشرطة الممتاز المتهم في ملف وفاة الممرضة فاطمة أكنوز، بالسجن النافذ لمدة خمسٍ وعشرين سنة، بعد مؤاخذته بتهم ثقيلة تتعلق بالقتل العمد مع سبق الإصرار وهتك عرض باستعمال العنف، وذلك في انتظار مرحلة الاستئناف التي يعقد المطالبون بالحق المدني آمالا كبيرة على أن تشهد تشديدا أكبر للعقوبة، بالنظر إلى هوية الشخص المتهم وهول الجريمة ووقعها على أسرة الضحية والرأي العام.
تفاصيل الملف التي تفجرت قبل أشهر لم تكن مجرد حادث عرضي بدا أول الأمر وكأنه «وفاة مأساوية ناتجة عن تسرب غاز البوتان»، بل كانت شرارة سلسلة من التساؤلات التي قادت إلى انهيار الرواية الأولى بشكل كامل، بعدما قررت النيابة العامة فتح تحقيق موسع، وأمرت بإجراء تشريح ثلاثي لجثة الضحية، ومسح علمي لمسرح الحادث، لتحسم نتائج الخبرة الطبية الشرعية في مسار القضية، مؤكدةً وجود جريمة قتل واضحة، ناسفةً بذلك فرضية الوفاة بالغاز التي روجت في الساعات الأولى لانكشاف الحادث.
القصة بدأت في السادس من أبريل 2025، يوم خيم فيه الحزن على مستعجلات المستشفى الإقليمي بخنيفرة حيث كانت الضحية تشتغل مساعدة للعلاج، قبل أن تهتز المدينة كلها بعد انتشار خبر العثور عليها جثةً هامدة داخل منزلها في ظروف مثيرة وغامضة، في وقت كانت رواية «الاختناق بالغاز» تبدو أقرب إلى تفسير جاهز منه إلى حقيقة مستوفية للشروط العلمية، ومع تواتر شهادات من داخل القطاع الصحي تتحدث عن علامات غير مريحة وغياب أي آثار تدل على الاختناق، بدأت دائرة الشك تتسع وتتجه نحو احتمال وجود فعل جرمي حقيقي.
ومع توالي التحريات، برز اسم مفتش الشرطة الممتاز الذي كان يشتغل بالمنطقة الأمنية لخنيفرة، كشخص له علاقة خاصة بالضحية، بل إنه آخر من رافقها إلى المستشفى لحظة وفاتها، ما جعله في قلب الاشتباه، خصوصا بعدما كشفت مصادر مقربة من أسرة الضحية أن العلاقة بين الطرفين كانت تتخذ منحى جديا، وأنه كان يعتزم التقدم لخطبتها بعد شهر رمضان، وليس ذلك فحسب، بل إن الضحية سبق لها أن تعرضت خلال الشهر نفسه لحادث مماثل قيل إنه اختناق بـ «الغاز»، وهي الواقعة التي ادعى خلالها المشتبه فيه أنه أنقذ حياتها، وهي رواية لم تعد، بحسب مراقبين، سوى مقدمة محتملة لما وصفوه بـ «نية مبيتة».
تسارعت الأحداث أكثر حين تبين أن المشتبه فيه حاول، بعد وفاة الضحية، الظهور بمظهر المتعاطف، فواكب أسرة الفقيدة في المستشفى، ومستودع الأموات، ومركز الشرطة، وحاول دفعهم إلى رفض إخضاع الجثمان للتشريح بهدف طمس الحقيقة وإغلاق الملف، وبلغت المفارقة ذروتها حين شارك في صلاة الجنازة، في مشهد استعاد معه الكثيرون المثل الشعبي «يقتل القتيل ويمشي فـ جنازتو»، قبل أن يحدث التحول الدراماتيكي الحاسم: دقائق فقط قبل بدء الدفن، صدر أمر عاجل من النيابة العامة لوقف العملية، لتنقل الجثة مباشرة من المسجد إلى المستشفى الجهوي ببني ملال من أجل إجراء تشريح علمي دقيق كشف المستور، وغير مجرى القضية بأكملها.
التحقيقات اللاحقة أكدت أن الضحية لم تكن في وضع استحمام كما جرى الترويج أولا، بل كانت بكامل ملابسها، وأن جسدها حمل علامات لا تنسجم مع سيناريو الوفاة بسبب الغاز، فضلا عن وجود قرائن عززت الاشتباه في كون الواقعة ليست عفوية بل فعل جنائي، وعلى إثر ذلك، وُضع المفتش المشتبه فيه تحت تدابير الحراسة النظرية، وجمعت المصلحة الولائية للشرطة القضائية أدلة تقنية ومعطيات ميدانية ساهمت في كشف خيوط القضية، التي بدت أقرب إلى سيناريو من أفلام الإثارة، كما وصفها بعض المتابعين.
الصدمة لم تُصب أسرة الضحية وحدها، بل امتدت إلى الأطر الصحية والنقابية بالإقليم، ومع تحول الوفاة من حادث منزلي إلى جريمة مع سبق الإصرار، وجد الكثيرون أنفسهم أمام أسئلة ضاغطة: من أبلغ السلطات بالوفاة وكيف نُقلت الضحية؟ ولماذا ظهرت آثار غامضة على جسدها؟ ومن حاول منع التشريح؟ ولماذا تمسكت الرواية الأولى بفرضية «الغاز» رغم تناقض المعطيات؟ أسئلة وضعت النيابة العامة أمام امتحان صعب عبر إشراف مباشر من الوكيل العام للملك ببني ملال، ووكيل الملك بخنيفرة، حتى تتكشف الحقيقة دون مواربة.
وبصدور الحكم الابتدائي القاضي بإدانة مفتش الشرطة بخمسٍ وعشرين سنة سجنا نافذا، وتعويض مالي قدره مائة ألف درهم لوالدي الضحية، وعشرين ألف درهم لكل واحد من إخوتها، تكون القضية قد وصلت إلى محطة قضائية مهمة، لكنها ليست النهائية، في انتظار ما ستسفر عنه مرحلة الاستئناف التي قد تعيد ترتيب أوراق الملف من جديد، ومهما يكن القادم، فإن قضية الممرضة بقيت واحدة من أكثر الملفات إثارة، ليس فقط بسبب بشاعة تفاصيلها، بل لأنها دفعت الرأي العام إلى التشبث أكثر بضرورة حماية النساء من العنف، وضمان استقلالية التحقيقات الجنائية، وتعزيز ثقة المجتمع في مسار العدالة.