كانت مناسبة حضوري اللقاء الاحتفائي بالذكرى الأربعينية لوفاة المناضل السياسي الاتحادي مولاي المهدي العلوي والمنظم من طرف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الرباط يوم 10 يونيو الماضي، فرصة لاسترجاع بعض الذكريات والأحداث التاريخية كما عشتها مع الفقيد لتوثيقها والتعريف بعطاء أهم الشخصيات السياسية الوطنية في الحركة الوطنية والبناء الديمقراطي إبان عهد الحماية وبعدها، وقد كان الفقيد من بين الفاعلين السياسيين والوطنيين العظماء ونعتبر مساره النضالي مرجعا غنيا بالمواقف المبدئية والتاريخية، قد تساهم في فهم التاريخ السياسي لبلادنا، وتستحق الدراسة والتوثيق في الذاكرة التاريخية المشتركة بعلاقة مع سياقها الوطني والدولي الذي ميز تلك اللحظات التاريخية.
كما كان تقديم كتاب مولاي المهدي العلوي (أحداث ومواقف) ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير في المعرض الدولي للكتاب بالرباط سنة 2022 مناسبة لأتعرف على مضامين الكتاب الغني بتفاصيل الحياة النضالية السياسية والدبلوماسية للفقيد، كما كان حضور زوجته الكريمة السيدة رجاء عدنان ونجله يوسف العلوي لحظة تاريخية جمعت العديد من أصدقاء المحتفى به ليقدموا شهادة حية في حق المناضل السياسي الاتحادي مولاي المهدي العلوي، كما سمحت لي الفرصة لتقديم شهادتي ولأول مرة للتذكير بما ربطني بالفقيد من صداقة ومحبة متبادلة ترجع بنا إلى سنوات، ولكن، مع الأسف، لم أتمكن من زيارة فقيدنا في منزله بدعوة من زوجته لتجديد التواصل وصلة الرحم معه والدعاء له بالشفاء وطول العمر.
لم نتوقع يوما أنه سيرحل عنا ونودعه إلى دار البقاء، يوم 3 يونيو الماضي، في جنازة شعبية بحضور جميع مكونات المشهد السياسي الوطني والعربي.
رحل عنا ذلك المناضل والصديق العزيز ورفيق درب النضال الوطني والتقدمي والقومي، ونحن نسترجع في هذه الظروف المؤلمة الذكريات واللحظات التاريخية التي عشتها شخصيا مع الفقيد الأعز.
التحق فقيدنا بالمدرسة الابتدائية لأبناء الأعيان بجوار مسكنه بالمدينة القديمة، التي أسستها سلطات الحماية سنة 1923 كأول مدرسة عصرية في سلا والمسماة بمدرسة السور لتواجدها بجانب الأسوار التاريخية، والمعروفة حاليا بمدرسة مولاي المكي العلوي، حيت درس فيها العديد من التلاميذ السلاويين من بينهم أبو بكر القادري وعبد الواحد الراضي وعبد الرحيم بوعبيد قبل تعيينه، في ما بعد، معلما بها، فكان من بين تلامذته الفقيد مولاي المهدي العلوي إلى أن انتقل إلى مدرسة جسوس بالرباط، والتي أسسها أحمد بلافريج، أحد زعماء حزب الاستقلال، وفي تلك المرحلة التاريخية كانت الحركة الوطنية تواجه التواجد الأمني والسياسة الاستعمارية، والتي توجت آنذاك بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقبال في 11 يناير 1944، ساهم في توقيعها مجموعة من الوطنيين الأحرار من سلا، وهم أبو بكر القادري وعبد الرحيم بوعبيد وأحمد معنينو وقاسم الزهيري وأبو بكر الصبيحي ومحمد البقالي والصديق بلعربي والطاهر زنيبر .
هذا، وفي تلك الظروف الصعبة من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية انخرط فقيدنا في سن مبكر في أنشطة الحركة الوطنية، ويلتقي مع شباب تلك المرحلة التاريخية من بينهم المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وبمناضلين من حزب الاستقلال ومن حزب الشورى والاستقلال، قبل وبعد تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ما دفعه إلى المشاركة الفعلية في الانتفاضة الشعبية التضامنية مع المعتقلين السياسيين المعروفة بالمظاهرات 29 يناير 1944 بمدينة سلا، التي كان من المنضمين لها كل من أبو بكر القادري وعبد الرحيم بوعبيد، التي أسفرت عن العديد من الشهداء الجرحى وأعقبتها اعتقالات واسعة من جراء القمع والمواجهة مع القوى الاستعمارية. في تلك الأحداث الدامية كان فقيدنا في طليعة الشباب المتظاهر بحماس شعبي منقطع النظير، وهو يرفع الشعارات المطالبة بالاستقلال والحرية .
لقد تعرفت شخصيا على الراحل عند مساهمتي كشاب وعمري 13 سنة في الحملة الانتخابية البرلمانية بسلا سنة 1963 لدعمه كمرشح الاتحاد الوطني ولونه الحجري، في منافسة انتخابية وسياسية قوية مع زعماء سلا أبو بكر القادري عن حزب الاستقلال باللون الوردي، والحاج أحمد معنينو ممثلا لحزب الشورى والاستقلال وباللون الأصفر كما أتذكر .
كان الفقيد مرشحا شابا في تلك الانتخابات رمزا للتغيير والأمل لطي صفحة الأفكار المحافظة للبعض في زمن كانت معظم العائلات السلاوية منقسمة تاريخيا بين حزب الاستقلال وحزب الشورى حتى أصبح الحزب الجديد الاتحاد يتمتع بشعبية وبجاذبية وسط الشباب والطلبة والمثقفين في مدينة سلا، المعروفة بتاريخها العريق وبشخصياتها الوطنية، ما نتج عنه تحول عميق في الخريطة الانتخابية وانخراط واسع في الحملة الانتخابية لصالح مرشح الاتحاد، التي عرفت مساندة فعلية بالمهدي بن بركة في التجمع الشعبي بباب المريسة لدعم المرشح الاتحادي. فكان مهرجانا ناجحا بحضور جماهيري كبير، وكنت من بين الحاضرين والمشاركين في تلك الحملة الانتخابية، والتي ما زالت تذكرنا بحماس الشباب السلاوي الطموح للتغيير وبناء مغرب العدالة الاجتماعية والديمقراطية، ومازلت أتذكر مرافقة الفقيد إلى مقر الاتحاد وحمله على الأكتاف مرددين بحماس شعارات النصر، وهكذا كان، وكانت المفاجأة السياسية في سلا، وفي المغرب .
لقد شاءت الأقدار أن أترشح بدوري في الانتخابات التشريعية سنة 1977 ممثلا لحزب التقدم والاشتراكية، رفقة كذلك رفيقي العزيز إسماعيل العلوي، لكن في جو ساد فيه التزوير الفظيع وشراء الضمائر، مع الأسف، كما شاءت الأقدار أن ننظم مهرجانا خطابيا في نفس الموقع بباب المريسة قرب أبي رقراق وبرئاسة المناضل الوطني وأحد قدماء حزب التقدم والاشتراكية الرفيق عبد السلام بورقية .
شهادة أخرى وذكريات أخرى تقاسمتها مع فقيدنا الدبلوماسي المحنك وذي التجربة السياسية الغنية بالعطاء دفاعا عن الوحدة الترابية، وعن ملف قضية الصحراء المغربية في المحافل الدولية، وبصفة خاصة في جلسات مجلس الأمن في الجمعيات العامة للأمم المتحدة كممثل دائم للمغرب، مكنته كذلك من ربط علاقات دبلوماسية مع العديد من رؤساء الدول العربية والإفريقية ومع زعماء حركات التحرر الوطني، وفي مقدمتهم ياسر عرفات .
لقد تعرفت على الفقيد مولاي المهدي العلوي عن قرب أثناء مشاركتي ممثلا لحزب التقدم والاشتراكية في المؤتمر العالمي حول آثار حرب الخليج على الأمن والسلام العالميين في شهر يوليوز سنة 1984ببغداد، بدعوة من حزب البعث العراقي .
وكان الوفد المغربي في المؤتمر يضم كلا من المهدي العلوي، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، وأبو بكر القادري من قيادة حزب الاستقلال، وأحمد الخراس عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. كان الهدف الرئيسي للمؤتمر بحضور العديد من الأحزاب والمنظمات الدولية والشخصيات الديمقراطية والبرلمانية عربية ودولية هو توجيه نداء عالمي والدعوة لوقف الحرب بين العراق وإيران بعد اندلاعها في شهر غشت سنة 1980، والتي كان لها تأثير سلبي على السلام في المنطقة العربية وعلى العالم، وعلى هامش جلسات المؤتمر جرى لقاء الوفد المغربي مع وزير الخارجية العراقي طارق عزيز، حيث أخذ الكلمة مولاي المهدي للتعبير عن تضامن الشعب المغربي مع الشعب العراقي والدعوة لوقف الحرب كخطوة أولى للوصول إلى تسوية سياسية عادلة للطرفين، وقد كان حضور الفقيد وتواصله معنا في هذا المؤتمر دعما لمواقف بلادنا لما يحمله من التجربة الدبلوماسية الرسمية والموازية في آن واحد، مازلت أحتفظ بتلك اللحظات التاريخية المشتركة في العراق، وكما قال الأخ العزيز محمد بنمبارك صديق الفقيد لسنوات، حيث إنه اكتسب خبرة دبلوماسية كمناضل حقوقي جال العديد من العواصم العربية والأجنبية، مدافعا عن القضايا العادلة للشعوب، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني المكافح، إلى جانب دفاعه المستميت عن مغربية الصحراء.
لقد كانت مناسبة مشاركتنا كممثلين لأحزابنا كقياديين ومسؤولين للعلاقات الخارجية في المؤتمرات الدولية العربية، بصفة خاصة في الجماهيرية الليبية بدعوة من الرئيس القذافي، لدراسة الأوضاع في العالم العربي والإسلامي، لتبادل الرأي حول بعض النزاعات الإقليمية وفي مقدمتها النزاع المفتعل بين المغرب والجزائر بسبب ملف الصحراء المغربية، كما كان النزاع الإسرائيلي الفلسطيني يحظى بأهمية خاصة لدى جميع الدول العربية ومنظماته السياسية والنقابية والحقوقية. أما بالنسبة لمشاركة الأحزاب السياسية والنقابات المغربية فقد كانت للقضية الوطنية الأولوية في مواجهة أطروحة الانفصاليين وأنصارهم من المنظمات والتيارات اليسارية، على الخصوص، فكانت معركتنا السياسية والإيديولوجية ترتكز على الإقناع والحوار وتقديم الدلائل التاريخية والقانونية، والتذكير بواقعية مخطط الحكم الذاتي في إطار الوحدة الوطنية كحل وحيد للنزاع الإقليمي.
وبشهادة الجميع كان الراحل دبلوماسيا ناجحا ومتابعا دقيقا لكل المراحل التاريخية للملف في مختلف المحافل الدولية والإفريقية، وعلى الخصوص، في متابعته المتواصلة لقرارات مجلس الأمن حول الموضوع حتى عند مزاولته مهمة السفير في هولندا وفي الأردن الشقيق، باعتبار قضية الصحراء قضية كل المغاربة، حيث كان مؤمنا بدور الدبلوماسية الموازية منها البرلمانية والاقتصادية والحزبية، كما كان له اهتمام خاص ومتواصل بالقضية الفلسطينية، مما مكنه من لقاء العديد من القادة الفلسطينيين مثل الزعيم ياسر عرفات ولقائه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، وكانت له علاقات قوية مع أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية سمحت له بالتعبير لهم عن التضامن الفعلي المتواصل المغربي الرسمي والشعبي مع الشعب الفلسطيني، نظرا للعلاقات التاريخية الأصيلة بين الشعبين الشقيقين منذ فترة صلاح الدين الأيوبي والدولة الموحدية، وقد توج مسار هذا المناضل المغربي الفلسطيني التضامني بتعيينه من طرف جلالة الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس مستشارا دبلوماسيا في وكالة بيت مال القدس الشريف منذ سنة 2007.
وقد سمحت لي الظروف كنائب الرئيس للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني أن أرافقه وأتقاسم معه تجربته الدبلوماسية ومشاركته الفعلية في الأنشطة المتنوعة، وكذلك في الندوات المغربية الفلسطينية المشتركة التي تنظمها الوكالة في مقرها بالرباط، فكانت كذلك مناسبة لتبادل معه عبارات المحبة والتقدير مع استحضار بعض الذكريات المشتركة في مجال الدبلوماسية الموازية والحزبية.
كان المرحوم مولاي المهدي العلوي صديق الجميع، ويفتخر كل من عايشه بتلك الصداقة والوفاء لها .
عاش الفقيد مناضلا مخلصا لمبادئه الديمقراطية والاشتراكية ومات، رحمه الله، رجلا متفائلا ومؤمنا بنصرة القضية الوطنية وبتحرير فلسطين والقدس الشريف .
رحم الله فقيدنا مولاي المهدي العلوي وأسكنه فسيح جناته.
(*)صديق الفقيد ونائب رئيس الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني ورئيس جمعية قدماء مدرسة السور بسلا.