بـيــن يَـدَيْ سـيـرتي: اختلاج الــجــذور

 

كتبت هذه الفصول التي هي بمثابة علائم ذكريات، ونوافذ مشرعة الخَصاص على الذات والموضوع مؤطَّرَيْن بتاريخية مضت لكنها تستمر نابضة بالحياة. كتبتها مُنَجَّمَةً في الصحف المغربية السيّارة، وبالمواقع الإلكترونية المختلفة، غير أنها كانت « خِلْسَة « تَدَّخِرُ لنفسها ميثاقا يؤلف بين شتاتِها، ويربطها بخيط ناظم سانكرونيا ودياكرونيا، ويجمعها مثل طيور النيسابوري الثلاثين في رحلة واحدة نحو الهدف المنشود. وهو ذا: أن تستوي سيرة تقولني قولا ينزع نحو الصدق ما أمكن، وتَسْتَلُّ ما نَسِيَهُ النسيان في غمرة التبدلات والتحولات الشخصية والمجتمعية. أما بعد: فقد وُلِدْتُ في جرادة ( فدّانْ الجْمَلْ) من أم أمازيغية عظيمة ذات شقرة، من بلدة « العروي» تابعة لمدينة الناظور؛ ومن أب عربي أبيّ من قبيلة غياثة ـ أولاد حجاج ب ( وادي أمليل ) تابع لمدينة تازة، وإن كان بعض النّسّابة المغاربة يقولون بالأصول الأمازيغية لقبيلتيْ غياثة الغربية والشرقية. هكذا، اجتمع فيَّ ينبوعان تدفقا وسَقَيَا وأنْبَتَا وأثْمَرا دماً واحدا مركبا قانيا يعتلج بالشهامة والمَغْرَبة الأصيلة، والشَّمَم والكبرياء، والعيش الكفاف والتحدي. علماً أن مُغْدِقَيْهِ عليَّ فقيران وأميان، لكن حُرَّيْن شهميْن رَضِيَيْن ب «المقسوم «. إذْ لم يكونا واعيين ـ في البدء ـ بأن الحصة الأكبر من « المقسوم «، حصة الأسد، كان يَزْدَرِدُها الأسد الهصور أي عصابة المستغلين، ولا يبقون إلا على ما يقيم الأوَد، ويبعد الموت، ويبطئ الفناء. هذا، بالرغم من أن أبي العامل المَنْجمي كان يمتلك وعيا نقابيا لا بأس به أشعله انخراطه في العمل النقابي ( الاتحاد المغربي للشغل)، حيث كان تجمع العمال أسبوعيا بمقر النقابة، عرسا نضاليا غير مسبوق، عشناه وحضرناه أطفالا وتَشَرَّبْنَاهُ بمصاحبة آبائنا وجيراننا العمال، مِمَّا فتَّح أَعيننا باكرا، وشحذ أوْعَاءَنا، ودفعنا دفعا إلى التحصيل الدراسي والمثابرة حتى نطرد الشقاء عن آبائنا وأهلنا، و» نُجَمِّلَ « قليلا حياتهم، ونُطَوِّبَها.
في عمر السادسة.. في طفولتي، رأيت الموت بأم عيني. رأيته طبعا، أقصد عشته وعاينته ( والفصل المعنون ب « جمعات سيدي محند أُوصَالحْ « ) يذكر ذلك ويفصل القول فيه. رأيته وأنا أُسْلِمُ يدي للممرضة لتأخذ عينة من دمي، وتقفَ على نوع الفصيلة. ثم، وأنا أُبَخْبِخُ بعد دقائقَ كخروف مذبوح. ورأيته وأنا أُجَرِّرُ خطوي كجِرْوٍ أعرجَ هزيلٍ وجائعٍ. وأنا أعَدِّدُ ضلوعي وألمسها كما ألمس قفة من قصب خاوية، أو مِصْراعٍ من خشب متآكل ومُخَلَّع. ثم، وأنا أجاور موقد الفحم وأدنو من لهيبه حَدَّ الالتصاق حتى أكاد أحترق، من شدة البرد الذي كان يَخْترِم جسمي الصغير المعلول، وينخر أعضائي برغم اعتدال الجو. وأنا لأشهرٍ بحالها، أمتطي ظهر أمي العظيمة ـ طيب الله ثراها ـ ظهر أمي المتعرق الصابر البارد كمثل نهر في الليل، فتقطع بي مسافة ستة كيلومترات ذهابا وإيابا من منزلنا إلى المشفى العمالي: ( 150 )، ومنه إلى بيتنا، طيلة أشهر خِلْتُها لا تنقضي، خلتها دهراً. فضلا عن أشياء وأشياء، وأحداث ومرارات، ولحظات فرح يتيمة وطائرة.
ومع ذلك، فعملية التذكر والاستذكار، عملية معقدة ومركبة. وتصبح، بقوة الأشياء، انتقائية لِمَا قبل الواقعة، وخلالها، وبعدها، إذ تتنازع البوحَ الذاتيةُ الحميمةُ، والموضوعية الهشةُ، ويختل ـ أحيانا ـ صبيب التدفق تارةً، ويشح تارة، ثم ينهمر ـ فجأةً ـ كمطر الصيف، وينْدَفِقُ كعين خبيئة فجرتها خبطة عصا سحرية كخبطة أيوب النبي، أو خبطة أُمِّنا هَاجَر. تستعيد الذاكرة مواقفَ ولحظاتٍ وشخصياتٍ دون أخرى، وفضاءات دون غيرها، وأحداثا ووقائعَ تنتقي نفسها بنفسها، تقدم بعضها وتؤخر أخرى، بل تطمرها وتميتها، أو تتحاشى ذكرها لأسباب لا يعرفها إلا من عاشها ربما لعلة فيها، أو مَسِّ عِرْضٍ من أعراض الناس ما زالوا لا يملكون الدفاع عن أنفسهم، وآخرين أحياء قد تصعقهم الحقائق، فيشار إليهم بالبنان اتهاما وتعريضاً، وخلخلة لأماكن احتلوها بغير وجه حق.
لا يُسْقِطُ الكُتّابُ بسهولة أقنعتهم، ولا يزيلون بيُسْرٍ براقِعَهم، وينسفون حوائط وهمية أقاموها. ذلك أن السيرة الذاتية (الأوتوبيوغرافيا) هي جنس أدبي أثار طويلا ما يمكن وسْمُهُ بالتشكيك والطعن في صدقية ما ترويه، وأحيانا الإشاحة والامتعاض والنفور. بل اعتبر البعض جنس السيرة، نوعا دخيلا، وفضلة زائدة، نوعا خارج نطاق الأدب والفن. فكان ينبغي أن ننتظر نقادا من عيار ثقيل معرفيا وثقافيا وذوقيا أيضا، لينتصروا نقديا للسيَر الذاتية التي صاغها وكتبها مبدعون ومفكرون قديما وحديثا، على رغم أنف الكاتب الكبير الفرنسي «شاتوبريون» الذي قلَّلَ من أدبية السيرة الذاتية، وقلل تِبْعاً لذلك من كتاب (الاعترافات) لجان جاك روسو. على العكس من ذلك، دلل النقاد على أدبية سيرة القدّيس أُوغْسطينْ، وسيَر مونْتَاني، والفيلسوف باسْكالْ، وجانْ جاكْ روسو، وغيرهم. مثلما دَلَّلُوا ونَصّوا على ذلك بالمقاربة المعرفية العميقة لِسيَر المحدثين والمعاصرين. غَرْبياً: على أعمال أندريهْ جيدْ، وسْتَنْدالْ، وسارْترْ، ومَالْرو، ويُورَنْسارْ، وساروتْ، وكوليتْ، وسيمون دو بوفْوارْ، وفيرجينيا وُولْفْ..الخ. وعربيا: على سيرة طه حسين ( الأيام ) الذائعة، وأحمد أمين ( حياتي )، وعبد المجيد بنجلون ( في الطفولة )، وعبد الرحمن بدوي، ومحمد شكري ( الخبز الحافي )، وغَلاّب، وعبد الله العروي في رواياته، وعبد الكبير الخطيبي، وليلى أبو زيد، وزفزاف، ومحمد برادة، وعباس الجراري، ومحمد عابد الجابري، وأحمد التوفيق، ومحمد العمري، وعز الدين التازي، وسعيد بنكراد..الخ.. الخ. ولم يأْلُ « فيليب لُوجونْ « في كل ما كتب، من إبراز أهمية السيرة الذاتية والسيرة الغيرية في حدهما النثري بالخصوص. فالميثاق الأوتوبيوغرافي ـ كما قال ـ ليس ميثاقا مرجعيا فحسب، بل علائقيا أيضا، مركزا على أُسّه الشخصي، بطبيعة الحال، وبعده الاجتماعي تبعا لذلك. إننا نبحث في السير الذاتية ـ أساسا ـ في تصوري ـ عن حاضر الماضي الذي نسعى إلى وصوله، ونتعب من أجل إظهاره بهذا القدر أو ذاك، عن نيران مجوسية موقدة أشعلتنا وحُقَّ لها أن تنسكب وتسيلَ جمراً ورمادا على أديم الطُّرُس والرُّقَع والأوراق.
أمَّا قبلُ: فهذه سيرتي الذاتية، حَرَصْتُ كلَّ الحرص، هل نجحت؟، على أن أنقل إلى اللغة لحظاتِ عيشي، ومحطات رئيسة وانعطافية في مسار حياتي، مساراتٍ صنعتني بقدر ما صنعتها لأنني نفخت فيها كثيرا من صبري وعنادي وشقاوتي وروحي. لكن، متسائلا على شاكلة الكاتب « شاتوبريون» وهو يعلق على سيرة روسو (الاعترافات)، أقول: من أكون؟، وما ذا لديَّ من جديد متميز وفارِقٍ ومثير لأقدمه للناس ـ للقراء؟ ولِمَ الإقدامُ على نشر خصوصياتي وعمومياتي إِنْ لم يكنْ ما كتبتُ من فصول في خصوص محطات من حياتي، جديراً بالمتابعة والقراءة والاهتمام، حقيقا بالفائدة والاقتداء؟. ما الفائدة من عرض محطات « حاسمة « من سيرتي كطفل ثم كصبي وشاب، على الخاص والعام، ما دمت أرى أنها لن تثير، ولن تجد لها صدىً في عقول ووجدانات الغير، وجدانات الآخرين: أحباء وأصدقاء وطلبة وقراء إناثا وذكورا، أو هكذا يخيل إليَّ؟
أيكون تصميمي على نشر ما مررت به، ومرَّ بي من أحداث ووقائع مختلفة، شكلا من أشكال التباهي والطاووسية، وضَرْباً من أَضْرُب النرجسية وحب الذات والغرور؟. أبداً، ومع ذلك لست أدري. يقول صديقي الشاعر والناقد عبد اللطيف الوراري في كتابه: ( السيرة الذاتية: النوع وأسئلة الكتابة ـ 2023 ): ( إن مؤلف السيرة لا يسرد حياته وينقلها حرفيا، إنما يصنع منها حكْياً، بما تفرضه الصناعة السردية، وما تُمْليه من إكراهات مرتبطة بالشكل السردي؛ أيْ أن الكاتب يعيد تشييد حياته حتى تصبح طيّعة للكتابة. فاستناد الذات إلى الذاكرة لاسترجاع الأحداث وحكيها، يجعل السيرة الذاتية فنا أدبيا يستنجد (يَسْتَسْعِفُ ) بالخيال لإعادة كتابة الحقيقة، وإعادة تشييد الذات). والحق أقول: إنني جندت كل قدراتي اللغوية، وشحذت الفكر والخيال والذاكرة لاستعادة أهم لحظات ومحطات من حياتي ومسيري فيها: طفلا وصبيا وشابا، من دون حشر ما لم يكن فيها، ما عدا اللغةَ التي تُضْفي على الحكي وسرد الأحداث والتحولات، بُعْداً آخر، يمكن توصيفه بالبعد الجمالي الذي يلتبس بالقص والرواية وهما يبنيان بالخيال عمائرَ للواقع، لا بغرض تزييفه أو تزويقه أو إنكاره، وإنما بغرض إضفاء حُللٍ زاهية أو كابيةٍ من الحلم عليه، ليبدوَ واقعا استعاريا منشوداً ومتَخَطّىً في آن، ولكنه مشدود شداً إلى الذات في تَضامٍّ روحي وحيٍّ مع صاحبها. لقد سَمَوْتُ بالسيرة ـ فيما أزعم ـ إلى بناء إبداعي منشود، نسجته اللغةُ، وحبكه الأسلوبُ، وأثْراهُ الخيالُ، الخيالُ اللغوي لا الخيال الملتف على سيرورة الواقع، وصيرورة الوقائع. إننا ـ وهذا شيء لا نختلف فيه ـ نكتب طفولتنا وماضينا من خلال عين ناضجة، وقلم استوى على سوقه، عين بعيدة فيما هي قريبة لأن خواص الدم والطبيعة واحدة: مسافة طفل ورجل، ماض بعيد فيما هو قريب قربا يتماهى مع كلية الكائن والموجود. فالطفولة ترتهن بآتيها، بنموها، براهنها المختلف وقد أصبح الطفل رجلا. نعم، « إن الطفل أبو الرجل « كما عبر الشاعر الرومانسي الإنجليزي الكبير: وِلْيامْ وُرْد زُورثْ.
إن اللغة وَسيطٌ بين صاحب الذكرى ومجريات الذاكرة، بين السارد والمسرود. وككل وسيط، فإنها تُباعِد فيزيائيا بين الذات والموضوع، ليست تلك المباعدة التي تعني اغتراب الذات عن ماضيها وموضوعها، أو ضبابية الذكرى في اللغة التي تتصدى لها مناديةً مستدرجةً، ومستحضرة إيقاع ولون الذات في الخطاب. إنها المُباعَدةُ المُصاقِبَة إذا جاز التعبير. فالماضي الشخصي حين يَنْحكِي، يحتكم لقواعد وأسرار اللغة، والقواعد إياها والأسرار تحتكم لأصوات الماضي، لأصداء الذكريات. ولك أن تسأل ـ قارئي المفترض ـ كيف بإمكان اللغة، وهي أصواتٌ وهواءٌ، أنْ تقدم ما مضى من حياة ومعيش ومسير ومسار، تَحَقَّقَ في الواقع والتاريخ؟. ولي أنْ أردَّ مُحْتَرساً ـ بطبيعة الحال ـ بالقول: وهل في طَوق بُرْهات ولحظات ومحطات عمرية بما هي مفاصل زمنية تتمدد صُعُداً، أن تشتبك باللغة وتحيا بها؟. ولعل في الجواب الفلسفي الأنطولوجي والفينومينولوجي، ما يبدد حيرتنا حين يعتبر أنه من دون لغة، من دون كتابة أو مشافهة، فإن الوجود ينخرس ويتعطل. فالآثار كل الآثار الشاخصة أو المُنْدَرسة أكانت حروفا منقوشة أو مسطورة أو حجارة صمّاءَ، تدل على الزمن السائل، على الماضي، على الفوات في الحاضر والمعاش، إنها مرايا عاكسة وناطقة بالوجود الذي كان، والمستمر كائنا. «إن الحياة ليس ما يعيشه أحدنا، وإنما ما يتذكره، ومن يتذكره، وكيف يتذكره» فيما يقول الروائي غارْسيا ماركيزْ. لكن، في الوَسْع إجابة الكبير « ماركيز «، بما يلي: أليس ما نتذكره هو عيشنا، مرورنا من تجربة إلى أخرى، ومن نتذكره هو من عايَشَنا وعايَشْناه، واقتسمنا سوّيا معه المر والحلو، الحنظل والعسل؟. أما كيف نتذكره، فتلك مسألة نفسية واجتماعية وتربوية، تتصل بأريحيتنا، وصدقيتنا، ووفائنا، وسبيل ما نراه مؤهلا لنا، وجديرا بنا كما نحن جديرون به أولا وأخيراً؟.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 27/06/2025