بلاغة الشبيه والتكرار في رواية  «الخطيب»  لهاني نقشبندي

 

منذ أكثر من عقدين من الزمن طفت على سطح مشهدنا الثقافي العام أشكال جديدة من التدين، وكأن الإسلام دخل للتو إلينا عبر قنوات التواصل السمعي والبصري والمكتوب، ولا أحد من المتتبعين يغض الطرف على هذه الظاهرة بكل تجلياتها من خطاب، وعطر، ولباس، وتقنيات جديدة ولجت إلى هذا العالم رغبة في السيطرة والتملك.
لا نحيل هنا على ما وقع في الولايات المتحدة الأمريكية شتنبر 2001، وتسارع العمليات الإرهابية في جميع بقع العالم تقريبا. لقد أضحت الظاهرة موضوعة للبحث والدراسة من مختلف المقاربات العلمية، وأضحت موضوعة مستحبة في الإعلام الدولي إلى حد أن صار الإسلام فوبيا تزعج الآخر الغربي، الشيء الذي تناسلت عنها موضوعات متعددة تجمل في « صراع الحضارات والأديان «.
لقد استقطبت هذه الموضوعة – كذلك – الكتابة السردية، وتم الاهتمام بها قراءة ونقدا، نذكر هنا على سبيل التمثيل « سراديب النهايات « و «يوميات موت حي « لعبد الإله بلقزيز، و» القوس والفراشة « لمحمد الأشعري وغيرها كثير. هكذا تكون رواية « الخطيب « (1)للروائي المائز هاني نقشبندي رؤية أخرى لموضوعة التدين.
رؤية فارقة لكونها مستنبطة من واقع مغلق، وإن كان لا يسميه. والمغلق من الزاوية السوسيولوجيا والتحليل النفسي يروم الكذب والخداع والتطرف، مثلما يحجب سكيزوفرينيا الشخوص، وهي الموضوعة التي برع الأديب جلاءها بلغة منسابة، لغة تخترق المغلق ذاته، وتخلخله إلى حد تعريته كلية. المغلق في الجانب الآخر منه يحتوي التقليد المؤسس على بنية السمع والطاعة (علاقة المؤذن بالخطيب). هذا التقليد الذي يصعب هدّه، وتقويضه لكونه سهل المنال، وله جاذبية مروعة، ومدعوم بطمأنينة نفسية خاصة، مثلما يحاكي الحقيقة والمطلق، وهو لا يقبل السؤال بقدر ما يستسلم لخطاب الأولين/ الفقهاء باعتباره حقيقة. إنه مسجون بالتكرار، والتكرار في رمزيته البليغة ينشد الشبيه والمتشابه، ويمقت المختلف والمتعدد.
رواية « الخطيب « تظهر هذه الموضوعات، وتدقق في الكليشيهات التي تحملها. عنوان الرواية مرآتها، فهو يفضحها، ويكشف دلالته من بعيد، إلا أنه مع ذلك يحجب مكره. هذا المكر هو الذي يهمنا هنا، رغم أننا لا نود الدخول إلى مطبخ الكتابة عند مؤلفها، ولكننا نريد مشاكسته قليلا. ذلك أن الخطيب ليس شخصا محوريا – فقط – في الرواية وإنما هناك شخص آخر مفارق له في الرؤية للدين حتى وإن كان ظله، إضافة إلى الفتاة، والمعلم، والعلماني (أبو الفتاة) … هل هذا يعني أن الخطيب هو مالك الدين، ومالك الأرض والسماء معا؟ أم أن المسألة استعارة للعبة تم التواطؤ عليها بين الكاتب وقراءه؟
كيفما كان الحال، يظل العنوان عتبة رئيسة في النص وإن كان مكره مكشوفا، إلا أن اعتباطيته قائمة بين الغلاف والصفحة السابعة، وبينهما استهلالان يفسرانها (أي الاعتباطية). ثمة قولتان واحدة منسوبة للإمام والأخرى للفتاة بضمير هي. رؤيتان مفارقتان واحدة تنزع نحو الإقصاء والقتل باسم الله، أي لا يمكن أن يكون التواصل مع المصلين باسم الحب والسلام. أما القولة الثانية فتكشف أسباب العلاقة بين المصلين والله، والتي تجملها في الجنس باعتباره مشكلة المشاكل عند العرب المسلمين.
لا غرو إذن أن تفتح الرواية نفسها على هاتين الرؤيتين الممتدتين على طول وعرض الرواية. رؤية الخطيب ورؤية المؤذن. رؤية المؤذن، ورؤية المعلم. رؤية المؤذن ورؤية الفتاة. ومدار هذه الرؤى هو المسجد من حيث هو مأوى الله وشريعته. لذا سيكون ميدان حرب صامتة في الرواية. حرب أفكار وأشكال تعبيرية ولباس، وطرائق تعبيرية وما إلى ذلك. ولأن كل حرب تفترض استراتيجية وتكتيكا، كما تعلن أو تستر الأهداف والمصالح الخاصة بهذا الطرف أو ذاك. بهذا الشكل تتشتت الرواية من حلقة حكائية إلى أخرى لتجتمع بطريقة درامية على الجسد الأنثوي من حيث كونه استعارة فارقة لميدان الحرب.
لقد استثمر الكاتب هذين الميدانين بإبداعية لافتة، ليس لكونهما مجالين ظاهرين في الواقع، بل لكون الروائي يستلها من تاريخ ثقافتنا العربية الإسلامية منذ زمن بعيد. فحجب المرأة مثلا لا يفيد لجم شهوانية الرجل، وإنما هو الخوف من المرأة باعتبارها مزوبعة للحواس. يظهر هذا في العلاقة الملتبسة والملتهبة بين المؤذن والفتاة، علاقة بوسيط تقني يضيف جمرات لشهوة مخزونة في الجسد باسم الحلال والحرام، ونظام المجتمع. إلا أن ثمة رابطا شفيفا بين خلع الخمار حين وصول الفتاة إلى بيتها والمؤذن يحمل أغراضها، والإشارات اللامتناهية واقعية أو تخيلية يكون فيها هذا الجهاز وسيطا إلى حد اختلاط الأمر لدى المؤذن بين صورتين صورة امرأة عارية تضع قلادة على جيدها فقط، وصورة مضمرة في الذاكرة والخيال. كأن الصورة فانطازم تداعب خيال المؤذن، وتخلق انفصاما بين الحقيقة والوهم. حقيقة الصورة مطمورة في الذاكرة البصرية للمؤذن وهي إحالة على شريط سنيمائي تيتانيك Titanic (حتى وإن لم يعلنها) وهي نفس الصورة التي جلت في النهار بكامل حشمتها وحفاظها على النظام الاجتماعي والرمزي. صورتان مختلفتان بين النهار والليل، ولأن الليل يحجب أكثر مما يظهر فهو مسكن المرأة، هذه الأخيرة مالكته، أي تمتلك الباطن، والرمز، والنجوم. بينما في مقابلها الرجل هو الذي يمتلك النهار باعتباره يرغب الوضوح والظاهر، والقانون والعرف، ويتوهم امتلاك الأرض والسماء.
هكذا يظهر لنا الخطيب كمالك لبيت الله، والراغب في تحسين وضعه الاعتباري من إمام بمسجد صغير إلى إمام بمسجد فخم. إلا أنه لم يصل إلى مبتغاه بمفاعيل متعددة أهمها تكرار خطبه إلى حد ملل المصلين، وتناقصهم جمعة بعد أخرى، الشيء الذي يدفعه للبحث عما يجعله نجما من نجوم الخطابة الجدد، وبتصدع جواني في شخصية الخطيب بين رغبته في التعلم من معلم لا يصلي وامتثاله لتعاليمه. وبالمحصلة رمى الخطيب أربعة عصافير بحجرة واحدة: أولها إعادة الاعتبار له عبر تزايد لافت للمصلين، وثانيا خلق ثلاث ورشات تعليمية وإرشادية بالمسجد للأطفال والنساء والرجال، وثالثا إعادة ترميم وتوسيع المسجد ، ورابعا زواجه من معشوقة المؤذن. كل هذه الأهداف مرشوشة بالبركة. هذه الأخيرة هي الناظم الرئيس للتقليد الديني المبني على التكرار والشبيه. إنها القناع الشفيف للسلطة، سلطة الظاهر والقانون والعرف. ولأنها كذلك، فقد خص جمهور هذا الخطيب النجم وليمة شارك فيها الجميع بنسائهم، لأن بركة الخطيب تنكشف يوما بعد آخر. في تعبير دال بالصفحة 164 « … وانشغلت بعض النساء يصنع ما تجود به أنفسهن من حلوى كرسالة امتنان غريبة للإمام الذي شدد على قوامة الرجال عليهن، ووصفهن بناقصات العقل والدين «. مفارقة فاضحة تروم الشبيه، وهذا الأخير تهندسه الإيديولوجيا. بينما المختلف (المعلم أنموذجا) مبعد من هذا الفضاء الذي يكون فيه الشبيه مرآة قبالة السماء. كما تكون المفارقة بين رؤيتين لمضامين الخطبة، رؤية تقليدية منتصرة وسائدة ومستأسدة، وقادرة على تجييش الجمهور من الرضع إلى الشيب، ورؤية تنهل من الفلسفة والتصوف وقصائد العشق، وكتب «طوق الحمامة» و «تهافت التهافت»
و « الفتوحات المكية « … ألخ. وبين الرؤيتين تحضر المرأة في الغياب، ويكون الخطيب وسيطا لكونه حارسا أمنيا على شرع الله في الأرض كي يخطب للمؤذن ابنة العلماني الذي انقلب بمفعول خطبة الفقيه المتطرفة. لكنه سيتزوجها دون أن يعلم صاحبه بالأمر. الوسيط ظل مختفيا، لا الهاتف يرن ولا الخطيب موجود. والحرقة تدب في جسد المؤذن إلى أن يأتيه الخبر من الخطيب الجديد.
ألا تشكل هنا المرأة مرآة هذا الذي يقدسه الجموع، أو هذا الذي تفيض بركته عليهم؟ لكن المرأة في عمقها (كما يقول الخطيب) «…. هي خاطئة، هي كافرة، هي ملعونة «. أنصت المعلم ثم قال بهدوء « ربما أصاب إمامك، دون قصد، في هذه. فالمرأة تخطئ عندما تطلب مساواتها بالرجل، لأنها ستنزل درجة إلى الأسفل دون أن تدري! « ص 158. تفترض هذه الفقرة تأملها بروية، ومقاربتها بالاجتهادات الجديدة لفكر ما بعد الحداثة. ولأن مقالنا بعيد عن هذا، فإن رواية هاني نقشبندي تفتح لقرائها أفقا مغايرا للقراءة والتأويل، ويمكن في فرصة أخرى ربط هذه الرواية بروايته الرائعة « سلام «. ثمة موضوعات كثيرة لم نتوصل إلى تحليلها، أو ربما أومأنا إليها كمفاتيح نهديها لقراء آخرين للكتابة عنها.

كاتب وباحث مغربي
(1)هاني نقشبندي، الخطيب، منشورات دار الساقي، بيروت، ط 1. 2017.


الكاتب : د. حسن إغلان

  

بتاريخ : 25/09/2020