بلاغة الصورة وإدانة التاريخ

 

يمكن اعتبار المنجز البصري: “سلاما أمهات” من أهم الأفلام الوثائقية للمخرجة الشابة فاتن خلخال، والذي جاء ضمن سياق الدراسات الأكاديمية فيلم تقدمت به المخرجة سنة 2016 لنيل شهادة الماجستير تخصص “الأفلام الوثائقية” بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، تحت إشراف حميد العيدوني وجيلالي فرحات، فيلم وثائقي حاز جائزة حقوق الإنسان النسخة الثانية للمهرجان الدولي لمدارس السينما بتطوان، كما حصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم بمهرجان هولندا سنة 2018.
تدور أحداث الفيلم الوثائقي حول عرض شهادات حية وطبيعية لأمهات المعتقلين السياسيين خلال ما يُعرف بسنوات الرصاص، فيلم وثائقي اعتمد تصويرا وإخراجا على مجموعة من التقنيات الفنية والإبداعية، وتوفرت فيه أهم المعايير المُحددة لهوية الفيلم الوثائقي، بما هو جنس إبداعي بصري يقوم على الدقة والموضوعية في نقل حدث واقعي على لسان شخصيات مشاركة أو شاهدة على واقعية الحدث، ومن أهم السمات الفنية الفارقة في هذا العمل الإبداعي، اعتماد عنصر الذاكرة البصرية، إذ غالبا ما كانت الكاميرا تلتزم الحياد عبر تصوير وجوه وملامح الأمهات مع التركيز على عيون الأمهات، تلك العيون التي تحولت إلى نوافذ مفتوحة أمام المشاهدين للسفر في الذاكرة والعودة إلى الماضي، ومما يحفز الذاكرة في تلك اللحظة على الاسترجاع هو اعتماد المخرجة تقنية التداعي السيكولوجي، وهو ما جعل صور أرشيف الذاكرة تبدو سوداوية ومأساوية بحجم التعسف والظلم الذي طال الأبناء ومن ورائهن الأمهات والأسر على حد سواء. هكذا أسهمت تقنية التداعي السيكولوجي في تحقيق المصداقية والموضوعية اللازمة في الفيلم الوثائقي، وحققت فعل الاندماج عبر التأثير في وجدان المشاهد وكسب تعاطفه مع قضية هؤلاء النسوة، ومن الملاحظات المهمة في هذا السياق، أن المخرجة كانت ذكية في التمويه على طبيعة انتماء المناضلين السياسية، رغم أنها ساقت شهادة أمهات اليساريين والإسلاميين معا، مادامت مقاصد الفيلم هي إدانة مرحلة الظلم والتعسف.
لقد تأسس الفيلم الوثائقي على بلاغة الصورة التي كانت تعبيرية في جميع تجلياتها، ومن الأمثلة الدالة على بلاغة الصورة، التركيز على حركات الجسد من خلال إبطاء حركة الكاميرا لتصوير الوجوه والعيون ورصد التفاصيل كالوشم والملامح، ورصد لحظات التوتر ووضعيات القوة التي تمثلها نبرات الصوت ومقاماته، أو وضعيات الضعف التي ترجمها انكسار لغة العيون وسيل الدموع، كما ركزت الصورة أيضا على الخطوط والتجاعيد، وانحناءات الجسد، وكلها كانت بمثابة صور استعارية تعكس حجم المأساة وتترجم ظلم الزمن، ومن ورائه قهر المخزن. هكذا استثمر الفيلم تقنية التناوب بين الصورة والسرد، وبينهما كانت لحظات البياض والصمت التي تخللتها المؤثرات الصوتية المتمثلة في الموسيقى التصويرية، موسيقى تتناغم ووضعيات محكي الألم والمعاناة.
إن أهم سمة ميزت الفيلم الوثائقي، هو حجم الاحتفاء بالبعد البوليفوني، حيث نجد الفيلم يضج بتعددية صوتية لنساء ينحدرن من أصول مختلفة، ومن طبقات اجتماعية وفكرية متباينة، ورغم هذا التباين فقد انخرطت تلك النسوة بكل تلقائية وعفوية في الحكي بصوتهن وعبرت كل واحدة منهن عن مأساتها، وتمكننا هذه التعددية الصوتية من التعرف على أنماط الوعي الذي مثلته تلك النساء، إذ نجد العديد منهن يتحدثن معجما نضاليا من مثل: الصراع الطبقي؛ الاستغلال؛ الظلم؛ التغيير؛ الثورة؛ الرفاق (…)، وهو معجم يستمد مفاهيمه من المرجعية الماركسية. نسوة حولتهن قسوة الجلاد إلى مناضلات، وزرع في نفوسهن ظلم المحاكمات التعسفية بذور التمرد فتحولن إلى ثائرات قادرات على التنظيم والانتظام في لفيف قادر على خوض الاعتصامات والإضراب عن الطعام ومواجهة سوط الجلاد.
ختاما يمكن القول، إن الفيلم الوثائقي “سلاما أمهات”، نجح في تحقيق عملية حفر أركيولوجي في ذاكرة أمهات المناضلين المغاربة، تلك الذاكرة الموشومة بأثر القسوة والمعاناة، كانت شهادة الأمهات إذن بمثابة محاكمة رمزية وإدانة فترة قاتمة من تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، لقد نجحت المخرجة فاتن خلخال في اختيار ثيمة حقوق الإنسان، ثيمة كانت تُعد بالأمس القريب من الطابوهات التي تجرُّ صاحبها إلى المسائلة والمتابعة القانونية، كما يمكن القول بنجاحها في اختيار الفيلم الوثائقي وسيطا بصريا وفنيا للعرض والفرجة، وسيط فني توفرت فيه جميع الشروط المعيارية والتقنية للأفلام السينمائية، حيث برعت في تقطيع وإعادة توليف المشاهد خلال عملية المونتاج، كما توفقت في اختيار الموسيقى التصويرية والمؤثرات البصرية والصوتية، وحققت الدقة والموضوعية، خلال عرض الشهادات الحية بصوت أصحابها دون تعليق، الأمر الذي جعل هذا الفيلم الوثائقي قادرا على خلق الإثارة وإدماج المُشاهد/ المتلقي وجعله قوة مشاركة وفاعلة في إعادة بناء وتأويل رمزية وغائية الفيلم.

(ناقد مغربي)


الكاتب :   د. الفاقيد عبد الفتاح

  

بتاريخ : 10/01/2022