«بنظارة أشف من الهواء»، للشاعر منير الإدريسي

نظارات شعرية
لاختبار الحواس

 

صدر عن مؤسسة مقاربات، ديوان شعري جديد للشاعر المغربي منير الإدريسي بعنوان « بنظارة أشف من الهواء»، تأكيدا لتجربة تعمّق مسارا خاصا بين الشعريات الراهنة اليوم.
يقع الديوان، الذي وضع لوحة غلافه الفنان السوري المبدع كائد حيدر، في أكثر من 80 صفحة، ويضم 61 قصيدة تحت أربعة عناوين كبيرة: 1) الجالس في نزهة عينيه. 2) سكين ضوء تحفر في الورقة. 3) جسر إلى النقصان. 4) الركض حتى الأسرّة.
إن عوالم القصيدة الشعرية في هذا العمل الجديد، تعمّق رؤية مفارقة من حيث التمثل الشعري الخاص بها للأشياء والوجود. وهي هنا تحت عنوان «بنظارة أشف من الهواء» تقترح نظرة متجاوزة لسطح الموضوعات، إذ لا موضوعات مع وجودها في الحقيقة، أكثر من الانشغال بدلالة اللامرئي من المرئي نفسه، تحت غبطة الدهشة والتأمل، وتلك هي المراهنة الأصعب. وهي تأخذنا إلى تخوم شعرية تتقاطع مع بعض اقتراحات الشعريات العالمية دون أن تكونها تماما. هذه النظرة تكشف في الحسيِّ ميتا حسيّ – إذا جاز التعبير- وهي تمسح كل ما تراه عبر نظارة شعرية مضاعفة حيث يبدو اليومي الشخصيُّ، بل اللّحظيُّ الآنيُّ، قطعة فنيّة محمولة على راحة الدهشة.
يأخذ المكان الشخصيُّ والعام حيّزاً مهمّا في هذه التجربة، وبكثافة، وهو مكان ذو دلالة رمزية على الأغلب دون أن يقصد الشاعر أيّ بعد رمزيّ قد نستشفّه من وقع اللغة، أو من معمار النّص. ففي جمل تخدعنا ببساطتها تكمن شعرية المكان ودلالته في فضائه الواسع، وغالبا من أجل تأكيد العزلة وغبطتها بتأملاتها الخاصة، وملاحظة المفارقات التي تتلبّس العالم ويتصيّدها الشاعر.
إنّ موضوع المجموعة الشعرية المهيمن هو البعد الشعري في كلّ ما يُرى ويُلمس بتقنية سردٍ من صور وُجدت للعين في تأكيد لمشهدية سينمائية، دون اعتماد الجمل النثرية إلاّ في ما ندر، حيث يطغى الاقتضاب الشديد مع تأكيد الفكرة التي لا تستحوذ بشكل طاغ، حتى تسمح للحواس أن تستحم كليّا في دفق الومضة الشعرية.
يصعب أن نقتطع كلمة أو جملة من أحد تلك النصوص دون أن نخلّ بالمبنى والمعنى. إننا أمام قصيدة يلتقي أوّلها بآخرها ككل متكامل، مثل الدائرة تماما، أو مثل منحوتة، صانعة المشهد الواحد بتفاصيل ووشائج لا مرئية. كما أنّ الصورة الشعرية في هذا الديوان لا تتركب من أجزاء الجُملة في القصيدة مثلما نعتاد غالبا، بل إنّ الصورة الشعرية تبدأ من العنوان إلى النص، ومنه إلى الأعلى ثانية لأنها لا تتكئ على اللغة، بقدر ما تكون الفضاء كلّه.
إننا بصدد شعرية التفاصيل الدقيقة التي تجعل من سقوط ورقة يابسة انتباها في هشاشة الوجود، وفكرة الزمن: ورقة شجرة سقطت على كتفي، ومنها/ إلى الأرض./ورقة يابسة ومنكمشة /مثل قبضةٍ واهنة، /بخيوط رتيلاء/ وبرائحة ظلّ متعفّنٍ / كجلوسي الطويل هنا، على العشب/ من صباح يوم أحد فارغ/ أركله عائداً إلى البيت ككرة تتضاءل في المشي حتّى الظّهيرة./ للورقة خشخشة أتمعّنها جيّدا الآن بذاكرةِ أذُن/ إنّها في هشاشة نهار صغير/ تهشّم بدعسة جزمة ثقيلة لهذا اللّيل. (قصيدة هشاشة ص57 ).
هذه التفاصيل الدقيقة جدّاً، تحملنا من مكان لآخر في سوق السمك، وأمام مراكب النهر بين ضفتي سلا والرباط، وفي الغابة، وفي العودة من الغابة، وفي حفل موسيقيّ، وفي حي مابيلا، وغيرها من الأمكنة.. وفوق الثلج مع الرفاق حيث السعادة كالموت تُبرِّدُ واللحظة ككرة الثلج في قبضاتهم القويّة: كانت السعادة تبرّدنا/ بلا أسماء نتزحلق، هوياتنا ابتهاج فحسب/ لا نعرف من أيّ بوابة أبديّة دخلنا/ في انسياب الحركة والاحتكاك./ منبهرين جدّاً../ دافعين بخارا أبيض من الضحكات، بين صاحبات الجلالة، الجبال. من قصيدة ثلج، ص 14
وإلى جانب تناول سؤال الفناء والنسيان والذاكرة، والضعف والله والزمن، تحتفي التجربة جيّدا بالعودة إلى الوراء، إلى زمن الطفولة. ففي الجزء الأخير من المجموعة، وتحت عنوان «الرّكض حتى الأسرّة»، ما يشبه قطعا كريستالية تعكس فيها كل قصيدة جزءا من سيرة متشظية للطفل، أو شيئا من أشيائه، أو وجوها بلا أسماء من حيوات الطفولة، باسثناء القصيدة القصيرة المهداة إلى سعيد والمفعمة بطقس جنائزي.
يمكن القول إن ديوان «بنظارة أشف من الهواء» هو احتفاء بالرؤية من خلال نظارة الشّعر قبل كلِّ شيء، في اختبار للحواس والعقل والخيال والذاكرة ضمن نطاق وعي آخر، يتجلّى فنّيا وجماليا، ولا يخلو من أفكار تقف في الزاوية الحادة من العالم.


الكاتب : «الاتحاد الاشتراكي»

  

بتاريخ : 26/03/2021