في الكتابة عنه، لا أدري أأهدأ مستسلماً لتداعي ذكريات عمر جميل مضى؟ أم أنقادُ لأقصى درجات التوتر التي تحكمت في توجيه بوصلة الكتابة لدى جيلنا ـ أنا وهو ـ؟ ذلك أن اسم الشاعر(عبد السلام مصباح) يتجاوز في معناه مجرد الدلالة على شخص بعينه، إلى الدلالة على مخاضات مراحل طويلة متعددة ، من تاريخ القصيدة المغربية الجديدة، فمنذ بدأ يخط حروفه الأولى في منتصف الستينات، أدرك أن القصيدة حتى تتكون بشكل أو بآخر على الورق، تفرض ليس مجرد تحديد الغرض الشعري، حتى تنبثق الأنشودة ، بل تستوجب المبادرة إلى تأسيس قواعد كتابة شعرية جديدة ، تستدعي أول ما تستدعي إعادة النظر النقدية في المنجز الجمالي التقليدي، وحتى الرومانسي، والتهيؤ لإنشاء خطاب شعري ، يحس كلّ من يقرأ القصيدة الجديدة ، أنه جزء من مشروع تكوّن عبر تراكمات إبداعية ، لتتشكل ملامحه في نتاج مجموعة شعراء أدركوا منذ أن اختاروا الكتابة الشعرية، أنها عملية صعبة ومعقدة، حينما تتجاوز المألوف، ولا تقف عند مجرد تأمل العالم ، وعلاقات عناصره الفنية والمعنوية، ومكوناته الجمالية والفكرية ، لتكون القصيدة شهادة جيل يكتبها بدمه ولحمه، هو جيل الشهادة والاستشهاد ـ كما عبر عن ذلك برموزه ، وكما أوضح ذلك مساره، فقد كان في الرمز والممارسة ، لا يفصل الإصغاء إلى نبض الحياة ، عن البحث عن وسائل جديدة من خلال تجاوز لغة ترهلتْ بمساحيق بلاغية تقليدية، والرهان على لغة جديدة تجاهد لتخليص القصيدة من شرنقة الصيغ البالية والتراكيب المألوفة.
وإذا كانت قصيدة(مصباح) قد حققت منجزا جماليا ما يميزها، فذلك أنها لم تقع في شرك الكتابة اللاواعية، التي تتوسل استحضار الأجواء السريالية، والرهان على استيحاء الحلم واستيهاماته وهلوسة اللاوعي، تحت مسوغات ٍ هي مجرد ادعاء ، اعتقادا بأن القصيدة تقطع بينها وبين الواقع أو مرجعياتها جميعاً، وأنها لا علاقة لها بالتاريخ. وأن الشكل هو قدر الكتابة الشعرية التي تحمل قيمتها في ذاتها ،ذلك مذهب من يقول بأن الشكل يقول المضمون، متناسياً(أن كثيراً من الشكلية يخرج من التاريخ وأن قليلا منها يعيد إليه»بارت») فالقصيدة إذن، ليست شكلاً محضاً ، كما أنها ليست مضمونا محضاً.
القصيدة بحث في الكتابة، بحث في التعبير ، ولذلك كان الشاعر الذي لا يتغير بين نص وآخر، شاعراً لا يتقدم، إن قيمة البحث في الكتابة يتجلى في مقدار ما يعربُ عنه النص من حيث كونه محطة ً، أو نقطة عبور، سرعان ما ينتقل الشاعر عنها، إلى محطة أخرى ، في رحلة كاشفة عن قدر عظيم من التوتر،لو توقف الشاعر عن الاستجابة له ، والإحساس به، لفقد مسوغات الاستمرار. وهكذا يمكن أن نستنتج ببساطة أن الكتابة الشعرية إما أن تكون إبداعية أو لا تكون ، وأنها لكي تستحق وصف الإبداعية ، يجب أن تكون مرآة للتطور والتغير والتحول.
وحتى لا نفصل بين الكتابة والعالم ، فعلينا ألا نستسلم لمذاهب تؤمن بالفصل بينهما .
وإذا كان (مصباح) لم يهتم بالتوقف النظري عند هذا الجانب ، فإن كتابته الشعرية الحميمة، المرتبطة بأشياء حياته الخاصة ، والمحوِّلة لما هو عام إلى خاص أيضاً، لأنه حوَّل حتى ما هو عام في اللغة إلى لغة خاصة، وفي هذا إنجاز تاريخي، إذا كان (مصباح) لم يتفرد به، فلأنه علامة على انتمائه إلى جيل ارتقى بالكتابة الشعرية ، من مجرد الاستجابة لغرض شعري إلى خلق خطاب شعري فيه « نقول « العالم، ونقول تجربتنا، بكل الصدق الذي لا يخشى دفع ضريبة الوعي، ماديا وروحيا. ولو أدى ذلك إلى الاستشهاد في سبيل إيصال الأغنية إلى مداها الذي تتحقق فيه.
تكلمتُ طويلا ـ كما يبدو ـ عن الكتابة الجديدة، لأن (عبد السلام مصباح) وجه من وجوهها، وفي هذا كثيرٌ من بهاء أضوائه التي يفيض بها على قارئه في ديوانه (حاءات متمردة) وجانبٌ من مجده، فطوبى له. وهنيئا لنا به.