بوح الذاكرة في « مذكرات سجين » لحسن الطريبق

” لكل سجين الحق في الحكاية وفي الإنصات إليه”
عبد الصمد بلكبير

بداءة، دعونا نتفق أن ” مذكرات سجين” الصادرة في طبعة أنيقة عن سليكي للشاعر الراحل لحسن الطريبق تنتمي لأدب السجون ، انتماء يفشي به عنوانها ، وهو بالمناسبة نوع أدبي يصف فيه الكاتب تجربته الشخصية أو تجربة شخص آخر في معتقله الجهنمي أو إقامته الإجبارية بغاية تعليبه وتنميطه، ومن ثم صناعة وإنتاج خضوعه وانضباطه .
ويشغل أدب السجون حيزا كبيرا في الأدب العالمي والعربي ، وموضوعة حكائية عامة مشتركة بين كل الأدباء والمبدعين على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم ، لا فرق بين هذا وذاك إلا في كيفية التناول وطريقة العرض ” 1
أما بالمغرب فيعود الاهتمام به إلى ما عرفته البلاد من محاولات التصالح والتسامح مع الماضي، أو ما يسمى بـ “سنوات الرصاص”، وهي سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي التي تعرض فيها العديد من السياسيين والنقابيين للاعتقال السياسي .
وبناء عليه شهد المغرب مجموعة من النصوص السردية ونذكر على سبيل المثال : كان وأخواتها لعبدالقادر الشاوي “يوميات سجين متوسطي” لحسن الدرداني، و”أفول الليل” للطاهر محفوظي، و”العريس” لصلاح الوديع ، و” جمر تحت الجلد “لمحمد أقضاض” و…” مذكرات سجين “للفقيد الشاعر ;والناقد “حسن الطريبق” الصادرة عن دار سليكي أخوين في طبعة رشيقة من الحجم المتوسط وعلى امتداد صفحة، وتزين غلافها لوحة دالة .
والمقبل على عتبات نص ” مذكرات سجين ” اللغوية والأيقونية ،يواجهه في أعلى دفة الغلاف الأولى اسم المؤلف “حسن الطريبق”، باعتباره الأنا الكاتبة، ” هذا فضلا عن تثبيت شرعية النص حتى لا يوسم باللقيط ” (2) ،ثم العنوان المركزي بخط عريض ومضغوط أسود اللون، يبرز مليا للمتلقي بقصد تصيده وفتح شهيته لقراءة المتن التي وسمه الكاتب ب” مذكرات سجين ” الذي نجده يتكون من كلمتين :
” مذكرات” التي تدل على ذكر الأحداث اليومية والأشخاص، والأزمان، والأماكن المتعلقة بها،
” سجين ” التي تحيل على الاعتقال داخل جدران السجن . وقد ارتبطت اللفظتان بعلاقة إضافية تطرح افتراض اعتماد هذه المذكرات على فضاء السجن، وتوظيفها للكشف عن حقائق خفية خلف جدران وأسوار السجن .
ومن ملحقات العنوان لفظة “سيرة “التي وضعت تحت العنوان واسم المؤلف، لتؤكد نوعية الجنس الأدبي الذي سيقدم به ” حسن الطريبق” عمله السردي هذا، ومن ثم ، برمجة المتلقي لاستقبال مستند حكائي هو بمثابة ملخص من خلاله يستعرض السارد تجربتهالسجنية .
أما لوحة الغلاف فتعتضد العنوان المركزي، وتلمح بدورها للمحتوى، وترتبط به ارتباطا وثيقا بما احتوت عليه من صورة لمجموعة من مسودات للمذكرات لها بلاغتها القوية، وليس لإضافة طابع جمالي .
وتبعا لما سبق،تطرح المذكرات أحداث تجربة الأسر التي تعرض لها “حسن الطريبق” عقابا وانتقاما منه على مقالاته المزعجة للسلطات المحلية في جريدة “العلم” حينها، مستغلين الانقلاب العسكري لتلفيق تهمة مغشوشة ومفبركة ، وإيداعه غياهب الزنزانة ثم المحاكمة، وما رافقهما من تفاصيل وخفايا مقززة من قبيل السجن الانفرادي وكل أشكال التعذيب الجسدي والنفسي.
تحدث كل هذه التعسفات المهينة والملتبس، رغم انتماء السارد لحزب موغل في وطنيته:” فماذا يريدون من شاب يحب بلده وينتمي إلى حومة وطنية معروفة بامتداداتها الوطنية التي انطلقت من الصدق الوطني النادر المثال ” ص 7
وعطفا على ما سبق، نعاين في المشهد الاستهلالي ل” مذكرات سجين”، انشغال الأنا الساردة بواجبها الوطني”، فقد أنيطت بي مسؤولية الإشراف على تكوين وإعداد ستة وخمسين موظفا بالقاعة رقم لإنجاز إحصاء سكان المغرب ” ص3،ثم بعد ذلك، نقرأ متابعة للانقلاب العسكري الذي شهده المغرب عبر الإذاعة الوطنية والجهوية والدولية .
وفي هذه الأجواء المتوترة ،يفاجأ السارد باقتحام الشرطة بيته، ويتم بعدها اقتياده مقيدا إلى الكوميسارية. يقول السارد :” ماذا وقع ؟ كيف حصل هذا ؟ وكيف هذه القوى المدججة بالسلاح إلى داخل بيتي في هذه الليلة الحالكة وفي ظرفية انقلاب عسكري ؟ ” ص 7.
وبالتالي، نعاين في كوميسارية العرائش التي كان السارد يشتغل أستاذا بإحدى مؤسستها الثانوية كل أشكال التنكيل والتعذيب، كالإلقاء به في مكان مغلق لا تتوفر فيه الشروط الصحية ، ولا تتم فيه التهوية إلا من خلال نافذة وحيدة، وهذا من شأنه التأثير النفسي على نفسيته، وبمثابة آلة تعذيب مارست كل أنواع عقاب الذات ومحاصرتها داخل قيود مكانية. نقرأ في الصفحة :” لقد أدخلني الموكول إليهم مصيري إلى بيت مجاور للمرحاض” .
وفي موضع آخر نقرأ أشكالا من العنف الموغل في الانتقام السادي والمرضي ، من قبيل :
” علقت على قضيب حديدي من جهة التقاء يدي ورجلي وبدأ التعذيب المرير بوضع رأسي داخل الماء ، وكنت أكاد أختنق” ص9
ونقرأ أيضا :” فسمعت واحدا يقول لصاحبه :
أنت الذي قتلته
فأجاب الآخر :
– حركه ، أمدد يديه وواصل عملية دلكهما” ص10
” فلم أستفق إلا بعد أن أفرغ أحد المخبرين السريين سطلا من الماء علي وعلى المكان الذي كنت أتمدد على أرضه ” ص10
في غمرة هذه الذكريات المريرة، يحلق طقس البوح مرة ثانية، فيستحضر السارد “سجن القلعة ” بطنجة فضاء مفتوحا على ” عالم السجانين وعالم المسجونين، أي عالم السلطة بقيودها وكوابحها وعالم الضحايا بعزلتهم ومعاناتهم ونشيد توحدهم “(3)
وهكذا نعاين بكثير من المرارة الحالة المزرية لفضاء ” سجن القلعة”، وتتعلق بالاكتظاظ الذي يفوق طاقته الاستيعابية، يقول السارد :” وبمجرد ما فتحت بوابتاه الحديديتان، الأولى، والثانية حتى واجهتي لفحة الحرارة الناتجة عن تزاحم المساجين وكثرة عددهم الذي لا يطيق ” السجن الكبير” استيعابهم “ص36، كما نكتشف الروائح الكريهة :” ” كان أغرب ماواجهته في الغرفة، كون المرحاض بها باب لم تكن له باب تغلق ” ص’45، كما نكتشف صورا من التحقير والإهانة التي لا ترحم : ” كان أغرب ما واجهته في الغرفة ، كون المرحاض بها باب لم تكن له باب تغلق ” ص’45
في هذا الوضع اللإنساني والمهين الذي يتعرض له كيان السارد، كان لا بد من خلق مساحات ضوء تكون بمثابة رئة ثالثة، من شأنها التنفيس والتخفيف. يلتجئ السارد إلى كتابة الرسائل إلى زوجته ثم إلى القصيدة .
واستنادا إلى هذا التحول من التوتر والتأزم إلى محاولة التعايش، يجد السارد طبيعته في الأمل والانفراد بالكتابة وزوجته وطفليه ، ومن ثم ،نقرأ رسائل لزوجته وقصائد بالعناوين التالية : “في تيه الوحدة”،و” عودي إلى الله ” نموذجا، وفي نفس السياق يقول السارد ” عندما انتهيت من كتابتها ، أحسست وكأنني حققت أثمن استثمار روحي يغذي مشاعري ويملأ وجداني ، ففرحت بهذا الفتح المبين ” ص51.
ولا ريب أن هذه الشواهد صورة لزنزانة مخفر الشرطة فضاء لما تعرض له السارد داخل حبسه الاحتياطي بمركز الشرطة من أنواع التعذيب وشكليه الجسدي والنفسي ينتهي بخضوع ساخر من الجلادين، بدل الخضوع التلقائي الذي يرغبون فيه، فأثناء التحقيق معه بغاية الاعتراف بأسماء التلاميذ التجأ إلى أسماء من الرموز العربية تمويها وتهكما حتى ينهي هذا المسلسل الكافكاوي، من قبيل :”أحمد التنوخي ،عبدالعزيز الفشتالي ، محمد الناصري ، ابن الجحاف المعافري، و”الإدريسي”
نقرأ للسارد ” فالأسماء التي سردتها هي أسماء أعلام عرب أردت أن أموه بها من بها فساد قصد القوم من تلفيق تهمتهم لي “ص30
تتميز لغة “مذكرات سجين بالتعدد اللغوي وتجاوزها للغة الأحادية، ويمكن أن نمثل لذلك باللغة السردية التي تنهض بتبليغ الوقائع، وقد تجسدت في التهجين الذي يعتمد أكثر من لغة اجتماعية داخل ملفوظ واحد كالفصحى والعامية والاسبانية والفرنسية، ويمكن أن نستدل على هذا الإثراء اللغوي بالنماذج التالية :
” هاك البراوات، اكتب، أكتب، باش ترتاح الله يكون في عونك” ص56
“هذا هو جزاء الخونة los traidor” ص 24
كما ينهض التعدد اللغوي بالانفتاح على نصوص أدبية من قبيل استدعاء قصائد شعرية للسارد، ويكثر نحتها بالخصوص في فضاء ” سجن القلعة”، إضافة إلى تفاعل النسيج النصي مع نماذج شعرية للمتنبي وأبو العلاء المعري، نزار قباني، علال الفاسي ، وتكشف بوضوح عن انتمائها للقصيدة الشطرية، هذا بالإضافة إلى المثل والجنس الرسائلي التي يتبدى في الرسائل التي وجهها السارد لزوجته بما هي إمساك بخيوط مشاهد جارحة، ونفسية قلقة *لكنها مسكونة بالتفاؤل والأمل في نفس الآن .
وعلى امتداد المحكي نتعثر بمعجم متنوع المجالات والحقول الدلالية ، ويمكن أن نستدل على أبرزها ب:
الحقل الدال على العنف المادي واللفظي:” قضيب حديدي،أختنق،إغمائي، المعذبين، يجرجراني، قسوة الهلاك، تزهق روحي، لا أطيق الحراك، العياء، البلل، السب، الازدراء، التهديد، الوعيد،تعذيب، الصورة الاستفزازية قيدوا ..”
الحقل الدال على الوعي السياسي : الزعيم الأستاذ علال الفاسي، الحزب، المناضلين، مفتش الحزب النضال، الأمواج السياسية، الديمقراطية، مبادئ الحزب، الحركة الوطنية، الحياة النيابية، زعيم وطني،قيمة نضالية، جريدة العلم ، معتقل ..”
– الحقل الدال على الدين :” الله ،الرسول ، نعم المولى ، نعم النصير ،الصوفية ،نور اليقين ،بدعة ، قدري ،إن شاء الله ، سبحانه ونتعالى ، أتصوف ،ياإلهي ، الآيات ،المؤمنين ، رحمته ..”
وعطفا على ما سبق، يتضافر النثري والشعري في المحكي الروائي لترسيخ ما هو جمالي يتجاوز الترصيع والذي من شأنه اصطياد المتلقي وفتح شهيته لاستهلاك هذه المذكرات التي تنحو صوب الشهادة والاستشهاد .
ومجمل القول” مذكرات سجين “تستمد محكيها من أحداث تنتمي إلى تجربة شخصية عاشها السياسي والشاعر والناقد “حسن الطريبق “، تمت كتابتها ضمن الحكي السير الذاتي لتجربة الاعتقال التي عانى منها، وهو ما أهلها لتكون شهادة قاسية ومنجزا ضمن ريبورتوار السيرة السجنية بالمغرب، وتلك هي :” ضريبة الشعر والأدب والعمل الصحفي ، باهظة الثمن، وإن حظي في دفع أقساط منها، كاد يكلفني حياتي وحياة أولادي في لحظة قلقة وعاصفة ومدمرة ” ص.107 ،
هوامش :

عبد العالي بوطيب، كتابة الاعتقال بين الذاكرة والإبداع، “العريس” نموذجا، الذاكرة والإبداع قراءات في كتابات السجن، منشورات اتحاد كتاب المغرب .ص 114
أحمد فرشوخ، ص28جمالية النص الروائي ، مقارنة تحليلية لرواية ” لعبة النسيان” ، دار الأمان ، ص 28
حسن لغدش، الكتابة السجنية في المغرب رصد لمعالم التحول في المرجعيات وأساليب الكتابة، الذاكرة والإبداع في كتابات السجن نفس المرجع ، ص35


الكاتب : عبدالله المتقي

  

بتاريخ : 23/01/2025