بورتريه للفنان التشكيلي المغربي عبد المجيد اللياوي .. حفر أركيولوجي في سبر أغوار شخصية الدكتور محمد قيسامي (لونا ونورا وظِلا)

لا تعتبر هذه الصورة مجرد بورتريه ، تفضل الفنان بتقديمه شخصيا كهدية في أمسية رمضانية ، تم تنظيمها بمناسبة تكريم صديقه الأستاذ الدكتور محمد قيسامي ، رجل المسرح بامتياز الذي ذاع صيته من المحيط إلى الخليج ، بل إنها أكثر من ذلك ، إنها فيض من المشاعر ، تتدفق كما تتدفق الدراما من جوارحه من خلال ألوان مشعة تبعث على البهجة ، وتعكس سمة رجل متفائل يحب كل ما هو جميل ، ويواجه الحياة بعزم وإصرار.
تتغير الرؤية على إيقاع تدرجات الألوان التي تبرز جمالية البورتريه وجاذبيته ، مما يسهم في تحسين الواقعية ، وذلك بفعل خطوط دقيقة تعبر عن احترافية الفنان ومهارته في الإشارة إلى الملامح وتقديم تعابير الوجه بدقة متناهية ، وبطريقة منظمة ، سيما وأن الفنان تعامل بعناية فائقة مع هذا العمل ليعكس شخصية السي محمد قيسامي التي تتميز بحس فني عميق ، وإسهامات متعددة في مجال الأدب والمسرح و السينما، وليكون استثنائيا أيضا ليجسد عمق هذه الشخصية خاصة من خلال تعابير وجه يبدو محافظا على نضارته ، حيث أن السنين لم تأخذ شيئا من حيويته و لم تغير نظرته التي تختزل ما شبّ وشاب عليه من انتباه ، وإصغاء ، وتركيز ، قد اعتاد على ذلك منذ ولوجه إلى عالم الإخراج المسرحي الذي يتطلب الحزم و الصرامة.
تلك الصرامة التي تتجسد أمامنا ونشعر بها ونحن ننظر إلى هيأته و زيه الرسمي الأنيق الذي نادرا ما يتخلى عنه حتى وإن كان خارجا عن الجامعة التي يحاضر بها ، مما جعله يحظى بالتقدير والاحترام في المجالس.
تنسينا هذه الصورة بأنها عبارة عن عمل فني ، وذلك بفعل تناسقها الذي يجعلنا نستحضر هذا الوجه و كأنه في حضرتنا، نشعر بنبضاته ، ونحن نقف عند كل لمسة شاعرية تفاعل معها الفنان قبل غيره ، وعبر عن ذلك من خلال الملامح بتفاصيلها الدقيقة التي تبقى راسخة في الأذهان ولا يستطيع الزمن أن يتجاوز حكاياتها ، حيث عمل على إفراغ بكثافة و في لحظة واحدة مسار أدبي طويل، أخذ أكثر من نصف عٌمر مبدع بقي وفيا للمسرح ، ولذلك يظهر أمامنا بشيب، يبعث على الوقار، غزا شَعره بالكامل وجزءا من شاربه الذي طالما اعتنى به منذ عنفوانه ، مما يعطيه مظهرا أكثر جاذبية و يزيده ثقة بنفسه ، ويُشعِره على الدوام بأنه أكبر من سنه ليأخذ الفتوة عن والده ، وسلطته الأبوية المعنوية التي تجعله يعتني بإخوانه وأخواته بيد من حديد داخل قفاز من حرير .
وقد أبان الرسام عن علو كعبه وذكائه ، حين عمل على إظهار تلك الخطوط الأفقية التي تمتد على جبينه العريض لتصل إلى الأنف ، سيما وأن علماء النفس يقرون بأن هذه الخطوط تُعبِّر عن شخصية شديدة في تحمل المسؤولية، وأن صاحب الجبين العريض متعدد المواهب ، يملك القدرة على التعلم بسرعة مما يسهل عليه العيش و مواجهة الحياة بنهج متوازن.
هذا الاتزان يتعزز أمامنا ونحن ننظر إلى رجل يبدو ثابتا ثبوت مبادئه وقناعاته، تم تقديمه بطريقة عمودية لتبدو صورته وكأنها تمتد نحو الأعلى لتقاسم السمو والتوهج مع لوحة تمثل الفن الراقي تعكس ميوله ، و تفصل بينه وبين خلفية يمتزج فيها الضوء باللون البرتقالي ، وهذا التزاوج بين عنصرين هو الذي صنع إشعاعا يتجاوز الإطار ، يشعر به المتلقي وهو يستحضر تلقائيا إنجازات هذه الأيقونة الأدبية داخل المغرب، وخارجه، مما ألهم الفنان حبكة فنية معتبرة متوازنة الأبعاد و بخلفية داخل خلفية تذكرنا بخشبة المسرح التي سكنت قلب الدكتور قيسامي ، بطل اللوحة الذي لايحتمل العيش خارج أجوائها ، كالسمكة ، فهي تموت بمجرد إخراجها من الماء.
تتوالى المفردات والعناصر أمام أعيننا لتترك انطباعا عاما عن حياة شخصية ومسارها الإبداعي ، وتوكيد ذكرها عبر امتداد الخط الزمني ، و تمكينها في الأذهان و القلوب.
فالعرب كما يقال تؤكد كل شيئ تراه ، ولقد أبدع اللياوي في إبراز الجانب الإنساني الأكاديمي لرجل مؤثر في مجاله وهو يقف عند الملامح التي وإن تغيرت بفعل سنوات من التفاني والعمل الجاد فإنها لم تتغير في أعيننا ، مما يضفي على هذه اللوحة شيئا من خصوصية ، تجعلها عبارة عن تحية بصرية ، خاصة وأنها تتجاوز كونها صورة تلقائية ، بل عمل فني ينقل عمق شخصية ذات حس رهيف ، استفزت الفنان وأغنت خياله، وألهمته رسما يتجاوز الإطار الخارجي لشخصية مجسدة ، تظهر للعيان بفم في وضع مغلق كتوم ، وجسد بلا حراك ، إلا أنه يتموج على إيقاع موسيقى روحانية يخلقها تناغم الألوان ، ويتأرجح بين ضوء جاذب الانتباه ، يبرز التفاصيل ، وظل يضيف العمق و الحجم ، والملمس .
وقد أبى الفنان إلا أن يجمع بينهما لإحداث تأثير ثلاثي الأبعاد، يبعث على الحركة، ولا يكتفي فقط بتوثيق هيئة قد تترامى إلى جانب الطبيعة الصامتة ، بل يعمل على التعبير عن مكانة وأهمية واهتمامات وطباع الشخص المرسوم وهويته، وصولا إلى حالته النفسية بأسلوب واقعي تعبيري فيه شيء من الانطباعية، يتغاضى عن دقة التشابه التي تتسم بها الواقعية المفرطة.
لقد خرج هذا البورتريه عن إطاره المعتاد ، فهو لا يسعى إلى تحقيق تشابه مع الأصل، بحيث يمكن التعرف على صاحبه بمجرد رؤيته، ولكنه يعزز الحضور والتواجد ، ويعكس ذاكرة فنان هادئ لاتنسى رجلا أبيا بقي وفيا للزمن الجميل بلونيه الأبيض والأسود، ولذلك لم يتسرع في إخراج عمل بمنظور آسر فيه عمق وهدوء ، وقد استعرض مهارته في تقديم ممثلا يتقن التواصل بالوجه قبل أن يكون أستاذا وكاتبا ومؤلفا ، يرتسم على محياه تعبير معقد يمزج بين الاحتراز والارتياح ، وقد وقف عند نظرته المحدقة المثيرة للفضول التي تخلق بين المتلقي نوعا من العلاقة فيها تجاوب وألفة تلقائية وبين قماشة زيتية جاءت بإضافات وآليات جديدة لتنفض الغبار عن صورة توثيقية و تحييها من جديد، بعد أن ظلت قابعة في الظل مدة من الزمن، وتستعرض براعة اللياوي في رسم البورتريهات، و تعرض أمامنا رجلا يعيش بيننا بسبعة أرواح (كاتب مسرحي، و ممثل، ومخرج، وسيناريست، وقاص، و شاعر، وناقد) ، يبدو في الواجهة، وكأنه يستعد للخروج من الإطار والتحليق بعيدا، مما جعل الرسام يغفل النصف السفلي من جسده ، لعدم أهميته، فهو يعجز عن البوح بالمشاعر ، “فلا حاجة إذا إلى القدمين مادام هناك أجنحة للتحليق «، على رأي الفنانة التشكيلية المكسيكية فريدا كاهلو ، ولذلك تم التركيز على النصف العلوي ، حيث يحضر الوجه الذي يعتبر عنصرا مهما في البورتريه لايمكن تحييده ، سيما وأنه يعكس الارتسامات و الانفعالات ويعزز المحاكاة ، ويخلق التواصل بين المتلقي الذي يشعر تلقائيا بأن هذه الملامح والخطوط تحمل في طياتها أفكارا ومشاريع وانشغالات عبر عنها الفنان بقماشة مؤثرة تبقى شاهده على الاعتزاز بصديقه وابن بلدته أبركان.


الكاتب : عبدالسلام صديقي

  

بتاريخ : 08/04/2025