بورتريه : مجذوب القصيد .. الزجال ماحي عبد الكريم في ضوء ديوانه دموع الما (ء)

«عفوًا أنا من افتقدتُ مفتاح الحياة
لا شيء يستحق الذِّكرى»
دموع الما (ء) (ص 50)
عبد الكريم ماحي

الزَّجال؛ تلك هي الصِّفة التي يحبُّ عبد الكريم ماحي أن يقدِّم بها نفسه، سواء على أغلفة دواوينه الشِّعرية، أو في ملتقياته الفكرية والثقافية، أو في حضرة مآدبه الرّفاقية والباخوسية؛ وهو زجَّال بالقوَّة والفعل، وتشهد على ذلك تجربته الشِّعرية التي تمتدُّ على عقدين من الزمن ولا تزال، بدءًا من ديوانه «لحماق تسْطَّا» سنة 2005، ومرورا بديوان «اتحتحيت السؤال» سنة 2015، و»شكون جرح الدم» سنة 2019، ووصولا إلى ديوان «دموع الما (ء)» سنة 2022، والذي يواصل فيه عبد الكريم ماحي الاحتفاء بسُمُوِّ الهامش، وعبث الحياة، حيث يختِمه بنص بعنوان أوقيدة، كناية على الهامشيِّ الذي قد يأتي على المركز، فيجعله رمادا تذروه رياح العبث، وهو ما يعبِّر عنه في نهاية الديوان بالقول:
«راه عَ أوقيدة تهزم نادْرْ» (ص 48)
اخترتُ أن أعنون هذا المقال بمجدوب القصيد لا على سبيل المبالغة، بل لأن موضوعه ليشكِّل مجذوبا بالفعل؛ فهو يعيش على هامش الحياة، غير مكترث بواجبات اليومي؛ إذ يحيا الحياة كما يتصوَّرها لا كما يحدِّدها له المجتمع؛ يحيا الحياة يوما بيوم، لا بمتحسِّر على ماض ولَّى، ولا على مستقبل آت؛ يحيا من أجل القصيد، وبين ثنايا الاستعارات، وعلى صهوة بلاغة الدارجة المغربية، منتصرا بهذا الحب وهو القائل في قصيد دموع الما (ء):
«ماحي سوا حاضر
سوا غابر
منتاصر بحب القصيدة
باقي بين جذبة رفاقي
باقي ساكن بقطرات العطش» (ص 7)
يتنفَّس عبد الكريم ماحي عبق الكلمة، ويأكل الدخان على حدِّ قوله، ويشرب ما تيسَّر من الجعّة (البيرة) والنبيذ (الروج تحديدا)، ويجِد ضالَّته في الطبيعة، ولا يهمُّه أين يستريح من بوهيميته، أو يُغمض جفنه؛ إذ إنه يتخذ كل الأماكن أسِرَّة تحتضن تعبه، خلاءً كانت، أو حديقة عمومية، أو على هامش أرصفة الشوارع، وفي أحسن الأحوار ببيت قد لا تزوره الشمس يسدِّد سومة كرائه الأصدقاء الخلَّص.
يفتخر عبد الكريم ماحي بكونه مواطنا هامشيا، وهو الذي لا يملك بطاقة التعريف الوطنية، بل يستمد مواطنته من بطاقة الانخراط في الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة وأصدقائها، وهي التي يحتجُّ بها على مواطنته وهويته كلَّما استوقفته دورية أمنية؛ وفي هذا الصدد لا يخفي صاحب «دموع الما (ء)» جميل الكاتب الوطني للجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة عبد الكريم سفير على عنايته بموهبته، وفي ذلك يحكي أنه وجده ذات يوم يقرأ كتابا لفريدريك نيتشه، فنصحه الكاتب الوطني أن لا حاجة لكَ بالفلسفة، لأنه إن كانت الفلسفة محبَّة للحكمة، فأنت حكيم في الأصل، لأنكَ مجنون، والحكمة تؤخذ من أفواه المجانين، وهو الأمر الذي ما فتئ عبد الكريم ماحي يتغنى به في قصائده؛ إذ الجنون بالنسبة له صنو الحرية، وانظره يقول في قصيد موسوم بدمعة الهْبيل:
«عْلموا ولادكم يبعدوا من طريقي الحجر
راني ع هبيل
من حقي نعيش حر» (ص 33)
عبد الكريم ماحي مجذوب، لأنه يناضل ضد أنانيته، إذ ما فتئ يشطِّب على تضخُّم أناه، بل يحاول عدْمها، وهو الذي لا يلقي بالا لمظهره وزينته، بل كل ما يهمّه هو طرح السؤال، والبحث عن جواب له خارج ذاته، وبين ثنايا قصائده؛ إذ نجدُه يتساءل في ديوانه الأخير عن انقلاب الأحوال، حيث يقول:
«صار لعتروس اخروف
وهرْبَت لْمْشَاش
اشكون يحسَب هاد الفيران؟» (ص 45)
لكن هذا الوضع المأساوي لعبد الكريم ماحي يجعله يشعر بالحرية أكبر إلى درجة أنه يعتبر أن جائحة كورونا كانت بالنسبة إليه أجمل مرحلة، على الرغم من عدم استفادته من دعم الدولة التي ناب عنها أصدقاؤه والذين يذكر منهم بالإضافة إلى عبد الكريم سفير، المترجم سعيد عاهد، والفنان مصطفى الحسناوي، والناقد عبد الحكيم دليل الصقلي الذي قدَّم ديوانه الأخير، والفنان بوجميع أحكور الذي أهدى لروحه أحد قصائد الديوان، والشاعر نور الدين الزويتني، والزجال مبارك فنيدي…إلخ، وإبان الجائحة يقول الزجال المجذوب:
«كاع الناس دخلو للكْرية إلا أنا»
بَعد قطع الحبل السّري لعبد الكريم ماحي مع أمِّه، قطع الحبل الاجتماعي مع العائلة والعادات، مغادرا المنزل في سنٍّ لا يتعدى أربعة عشر سنة لكي يقطن مع صديق له، إلى أن صار موظَّفا بالمكتب الوطني للسكك الحديدية، حيث كان، على حد قوله، «كايشْرك الحديد» لمدة إثني عشرة سنة، بعد أن تلقَّى تكوينا بمكناس لمدة سنتين. لكن شخصية الزجال المتمردة جعلته يتوقف عن الذهاب للعمل، وهو ما جعله يُتَّهم بالجنون ويُعرَض على الخبرة الطبية بمستشفى الرازي للأمراض العقلية، لكن لم يعلموا أن عبد الكريم ماحي كان بريئا من التهم المنسوبة إليه، إنما جريرته أنه كان فنَّانًا، وهو العنوان الذي اختاره لأحد قصائده التي نشرها بجريدة المنظَّمة؛ إذ الكتابة تشكِّل بالنسبة إليه عزاء وهو القائل:
ابغيت أنا غ نكتب
عليك أيا ايامي
نكتب عليك بدموع البسمة
ويهزني المعنى عل العمارية معا الكلمة» (ص 8).
وجَد إذًا زجَّال مازاكان (مدينة الجديدة) راحته النفسية بعيدا عن عادات اليومي، والواجب المهْني، والأمر والنهي والسمع والطاعة والنهب والاستبداد؛ ولعل هذا ما جعله صوتا من أصوات حركة عشرين فبراير بالمغرب، قبْل أن يفرَّ من حوله الرِّفاق، ويجعلونه يدفع ضريبة النضال على حُلم أشبه بالسَّراب، شاكيا للمظلوميةالتي طالته، ومشيِّعا جثة الظالمين، حيث يقول في قصيد دمعة الحُكْرة:
«عاش حكّار ومات محكور
ديرو حجرة زيدو حجرة
فوق قبرو ديرو كركور
لَ يعود يحيا فينا ثاني التاريخ
ويشهد الزور»(ص 28).
عبد الكريم ماحي شاعر مجذوب كذلك، لأنه غيوانيُّ الهوى، بل دماء الغيوان تجري في عروقه باختلاف تلاوينها المشاهبية (نسبة إلى مجموعة المشاهب) والمسناوية (نسبة إلى مجموعة مسناوة)؛ فهو شرب من روح الغيوان، ومن معين كبارها، وعلى رأسهم محمد باطما الذي ما فتئ يشجِّعه على الكتابة والإبداع؛ بل يتجلى طابع الجذبة بشكل كبير في طريقة إلقاء عبد الكريم ماحي لقصائده، حيث يبثُّ فيها حياة أخرى، ويجعل الكلمات تنطق بمعاني الألم حينا، والسخرية السوداء أحيانا أخرى، بل تجدُه في قصيد واحد يدمج معنيين متنافرين مثل قوله في قصيد نجمة الحوْش:
«من شرْجم الحوْش طْلَّت عليا نجمة
كَلت مرحبا
نجمة حال
نجمة سؤال
نجمة لحوال
نجمة معايا فِ الحوش
نجمة ولّفَت
حنْتْ شافت مْراح الحوْش
بدمِّي مرشوش» (ص 17)
لا شك أن مشاعر عبد الكريم ماحي تكُون مقنِعة على الورق، خصوصا وأنه متحرِّر من عِقال وحدة الروي والقافية، وغيرها من القضبان التي تشُلُّ طبْع الزجَّال المتمرِّد، إلا أنه يكون أكثر إقناعا وهو على خشبة المسرح،ملبِسا قصائده لَبوس الحكاية، وما يتخلَّلها من فصول البدء بموَّال غيواني، مرورا بعقدة، وانتهاء بحلٍّ تنفرج معه غصة شاعر شرب من كأس مرارة الحياة، والكتابة على أوراق سوداء (ورقة كحلة) كما عنون أحد قصائده (ص 44)، ولا عزاء له سوى الله، وهو الذي يقول:
«بْلا ما يدفنوني، ندفن راسي فيّا
وندير جنحين
نمشي عند الله لي قاد بيا» (ص 13).
تكتسي موضوعة الموت في أعمال عبد الكريم ماحي، وما يرتبط بها من بكاء، وطقوس الدفن، وشواهد القبور، والانتقال من الوجود إلى العدم، والهشاشة التي تنخر الحياة، أهمية كبرى، إلا أن الموت عنده ليست مناسبة للنواح ولعن عوادي الزمان، بل قد تكون خلاصا من الألم والظلم وسوء الحظِّ، إلى درجة أنه استقبل أمه وقد توفَّتها المنيَّة بمشاعر باردة أشبه بمشاعر بطل رواية الغريب لأبير كامو، مكتفيا بإلقاء السلام على روحها، وكأنها عابرة سبيل، بل ضَحِكَ وهو يودِّعها الوداع الأخير.
قد يبدو عبد الكريم ماحي نموذجا للإنسان العدمي، من حيث كونه يرتضي حياة الهامش، ويحتفي بمعاني العدم والفناء والهشاشة، إلا أنه اختيار وجَد فيه ضالته، وفي ذلك يقول: «إني أنتحر اجتماعيا، لكي أحيا إبداعيا»؛ إذ الإبداع عنده يُولد من رحم الفاقة والألم والمعاناة؛ ومن ثم فنقده لذاته وللحياة من حوله ليس نقدا عدميا، إنما هو نقد كلبي (نسبة للفيلسوف ديوجين الكلبي)، ونقد إبداعي، حيث إنه ينعش القصيد، ويجعل قلمه سيّالا، وروحه فيّاضة.


الكاتب : عبد الرحيم رجراحي

  

بتاريخ : 23/08/2024