علاقات نصّية، الكُتّاب ومترجموهم
ضمن ملحقها لصيف السنة الجارية، خصصت يومية «ليبراسيون» الفرنسية سلسلة من ستة مقالات قاربت ضمنها علاقات بعض كبار الكتاب مع مترجمي أعمالهم، وذلك في أعدادها الصادرة من 19 إلى 25 يوليوز 2025.
ثمة وقت لكل أمر، للمجد أو للفشل. في صيف 1947، نشر بوريس فيان، الطالب المهندس السابق في المدرسة المركزية بباريس، «زبد الأيام»، الرواية التي حلم بها طويلا. لكن المبيعات ظلت ضعيفة ولجن تحكيم الجوائز الأدبية تجاهلت عمله، ما جعل مورد إثرائه المرتقب بعيد المنال. وفي نفس الوقت، كان جان دالوين، المؤسس قبيل وقت وجيز لدار النشر «سكوربيون»، في حاجة ماسة إلى تحفة أدبية لإطلاق منشوراته. هكذا، أقدم الصديقان على تدبير خطة مدروسة بإتقان. فبما أن فرنسا ما بعد الحرب مولعة حد الجنون بالثقافة الأنجلو سكسونية، موسيقاها، كتابها، فسيمنحانها ما تريده.
راعي البقر
في خمسة عشر يوما فقط، سينهي بوريس فيان، العاشق لموسيقى الجاز وللأدب الأمريكي، كتابة رواية يحاكي ضمنها الروايات المندرجة ضمن جنس أدب الجريمة، حكاية انتقام على خلفية التمييز العنصري في أمريكا، رواية على شاكلة تلك المنتشرة بكثرة في الولايات المتحدة. المؤلف وقع منجزه باسم مستعار يحيل على ضجر أحد رعاة البقر في الغرب الأوسط الأمريكي: فرنون سوليفان. ليتم توزيع «سأبصق على قبوركم» في المكتبات يوم 21 نونبر.
منذ ذاك، شرع بوريس فيان في تقديم نفسه على أساس كونه المترجم السعيد لسوليفان. بل إنه أضفى أهمية أكبر على ترجمته المزعومة، بحيث روى، في مقدمة إحدى طبعاتها، كيف اكتشف ذلك الكاتب الإفريقي-الأمريكي غير المعروف والملعون، الذي قوبل عمله «بالرفض في أمريكا» من طرف الناشرين، والذي يعتبر كابوس «الطهرانيين، ومدمني الكحول وأنصار مقولة: أَوْلِج هذا في دماغك جيدا». المشاهد الجنسية في الرواية أذعرت الروابط الفرنسية المحافظة، ومنها كارتِل العمل الاجتماعي والأخلاقي الذي طالب بمنع الكتاب نظرا لكونه «خليعا».
وزادت الأحداث الطين بلة، ذلك أن رجلا قتل عشيقته وترك جنب جثتها نسخة من الرواية. وبما أن الفضائح ساهمت في نجاح الرواية، فإن بوريس فيان سيصدر ثلاثة أعمال روائية لاحقة تحمل توقيع فرنون سوليفان («للموتى جميعا لون واحد»، «سنقتل جميع البشعين» و»إنهن لا يدركن».) غير أنه سيقرّ، في 1948، بأنه المؤلف الفعلي لهذه الأعمال. ستتعرض رواية «سأبصق على قبوركم» للمنع بفرنسا في السنة التالية، غير أن الأمر كان قد حسم، فبفضل فرنون سوليفان، خدع بوريس فيان العالم.
الخبير
بشكل مثير، ستشرع ترجمته المزيفة في وجهه أبواب الاحتراف الحقيقي للترجمة. فالناشرة هيلين موريس- بوكانوفسكي، التي قرأت «سأبصق على قبوركم» بـ «اهتمام شديد فائق»، ستوظفه لترجمة رواية بوليسية بعنوان «الساعة الكبرى» للأمريكي كِنيث فيرنغ، معتقدة أنها في حضرة خبير. ونظرا لسعيه الدائم إلى الحصول على الأموال، سينجز المحتال الترجمة المطلوبة، ليواصل، بعدها، ترجمة كبار الكتاب. ومن ثمة، فنحن ندين له بترجمة أولى قصص وروايات الخيال العلمي التي وصلت إلى فرنسا (وكانت موقعة من طرف فرانك إم. روبنسون، ألفريد فان فوغت أو راي برادبري)، وكذلك الروايات المؤسسة للسلسلة السوداء، ومن ضمنها «السبات العميق» لرايموند تشاندلر. ونظرا لعشقه لهذه الأجناس الأدبية، فإن ترجمات بوريس فيان اتسمت بالجودة والإتقان. وهو ما يفسر انتظار مرور خمس وسبعين سنة قبل إعادة ترجمة «السبات العميق» ثانية إلى الفرنسية، وذلك في 2023. فعلا، لا أحد تجرأ على المساس بلوحة المترجم الحقيقي والمزيف في ذات الآن.