بوسكا وبوتشوا

هذا ليس أمرا جديدا، ولا أخفيك أنني سمعته مرارا وتكرارا يتردد على ألسنة الحكواتيين والرواة، بل إن أول من أتى على ذكره في التاريخ هم الهنود في القرن الرابع عشر قبل الميلاد!
التمساح، كما نقلت تراتيل آلهة الفيدا، لم يكن الحيوان الذي نعرفه اليوم. وجاء في كتاب «رسائل ماهيندرا» لصاحبه الرحالة أبي القاسم المقدسي الشهير بأبهارا أديش أن التمساح الأول كان محاربا مهيبا حازما شديد المراس. يرهبه المقاتلون ويرفضون النزال معه. لم يحدث قط أن خسر نزالا مع أي خصم مهما علا شأنه وبلغت براعته. وقيل إن اسمه الحقيقي هو بوسكا، وكان لا يقيم في قصر أو سرادق أو بيت. إقامته كانت في كهوف جبال آزرو المغربية، وفي الأماكن القريبة من عُرُن السباع بغابة جورو. وقال الرواة إن الجزء الخلفي لرأس بوسكا كان يشكل صفيحة ملتصقة بالرقبة التي لا يظهر منها إلا العظام والغضاريف، أما ظهره فإنه مغطى بدروع عظمية بارزة القشور؛ وهو ما كان يفزع العدو ويدفعه إلى الفرار. وقد ظل على هذا القدر من الغرور إلى أن وقع ما وقع في تلك الليلة التي انطفأت فيها النجوم وخسف القمر.
هل تعرفون ذلك الرجل الذي يسافر دائما خارج أي منطق زمني، الرجل الحي الذي لا يموت، حارس الأسرار وقاهر الجبابرة وكاشف المعجزات؟
يسمونه الخضر عليه السلام، ولكن اسمه الحقيقي، كما ورد في كتب الفيدا، هو بوتشوا. ويحكى أنه أتى إلى الأرض من أنفاق غامضة لم يحدد أحد أماكنها في السماء، ولم يكن يحمل إلا عصا ضخمة يهش بها على أشياء لا ترى، قيل إنها بنات الجن والشياطين، كما قيل إنها طريقته في اعتراض الأرواح الطائشة أو الوحشية، بينما تؤكد مصادر أخرى موثوقة أن العصا مجرد رمز للمثابرة في التكوين الحربي، وأنها تتكرر في كل التراجم الشعبية والأساطير القديمة، وحتى في كتب الباه، ولا ينبغي أن تشكل أي عبء حقيقي على الحبكة القصصية.
وجاء في الكتب أن بوتشوا ظهر، بخفة عالية ووضوح تام، على صخرة من صخور جبل هبري في المغرب الأقصى. ومكث هناك سبع ليال إلى أن بدأ الظلام يتشكل حول الجبل بشكل لولبي متكاثف لا يصدق. ينمو ولا يتبدد، يحلك ولا ينقشع. وحين اكتملت كسوته المظلمة، رفع القادم عصاه عاليا وأنزلها بضربة حادة سُمع لها صوت كهزيم الرعد. وتوالت الضربات، ومع كل ضربة كانت تصله لعنات بوسكا الذي يبدو أنه فزع من نومه في أحد الكهوف القريبة. حينئذ، ابتسم بعناية، وعرف أن وقت النزال قد حان، وأن ميلاد جنس حيواني جديد يستحق كل هذا العناء الميتافيزيقي.
وتابعت الكتبُ أنه بينما كان بوسكا يتسلق الجبل المظلم بخفة الفهود، ظل بوتشوا في مكانه لا يبرحه. اكتفى برمي العصا على بعد أشبار، وجلس على الأرض بكل هدوء. أخرج من جرابه قارورة ممتلئة بمحلول أخضر يميل نحو السواد، شرب منه حتى ارتوى، ثم أخرج ودعا كثيرا رماه ثم دمدم عليه فاجتمعت قطعه إلى بعضها وصارت سكينا مدببة بثلاث شفرات تومض منها نيران صاعقة.
هكذا بدأ كل شيء. التقى بوتشوا وبوسكا، ودون أن يكلم أحدهما الآخر، ودون معرفة دقيقة بإمكانات بعضهما الحربية، دخلا في صراع محموم.
هاجم بوسكا غريمه بقلب ثابت وصوت هادر، محاولا أن يشق رأسه إلى نصفين، فزاغ بوتشوا عن الضربة بخفة ومهارة، ساخرا من كل الغيلان التي تظهر في عيني مهاجمه. وفي لمح البصر، ودون أن يمنحه الفرصة لاستجماع قوته، شده الرجل الذي لا يموت إليه، وأحكم الخناق عليه، وطرحه أرضا مرات عديدة حتى قرقعت عظامه وارتعشت فرائصه، وكان الرجل متأكدا من أن معنويات بوسكا في الحضيض، وأنه يجرب أشكالا من الأحاسيس جديدة عليه. ها هو يأكل التراب والأشواك. وها هو يختار صيغا مختلفة للوقوف على قدميه، وها هو يحاول ألا يترنح أو يلهث أو يرتخي. وها هو يشعر بالحاجة إلى أحد ما، أي أحد يساعده على النهوض ليقاوم ما هو بعيد المنال. وها هو يتلقى ضربة ملتوية بالسكين ذات الشفرات الثلاث على غضاريف رقبته ودروع ظهره، فيصعق ويسمع همس الأرواح تسخر منه وتدفعه إلى الخلف. ماذا سيقول عنه التاريخ؟ لن يغيظه أن يقولوا إنه مات مصعوقا أو أنه هوى من شاهق!
وحين همّ بوسكا بإغلاق عينيه للمرة الأخيرة، أضاء توتشوا أمامه بشكل مفاجئ وسكب على جسده محلولا أخضر تفوح منه رائحة مبيد حشري، وفي الحال بدأت أطرافه تفركل، وخرج منها زبد يميل نحو السواد، ثم بدأت خطوطه تتعرج وتتداخل، وتتشكل كتلا هندسية متباينة صعودا ونزولا. وأخذ الانعكاس اللوني يتجسد في لوحات متحركة ما بين الأبيض والبني والأخضر. ظهر رأس بمحتوى حشري متسطح ينتهي بفكين قويين، وتمدد ذيل طويل متماسك يأخذ من الأرض ويعطيها، بينما تحرشفت المنصة الظهرية بعظام وغضاريف، وتمخلبت واقيات الأطراف وتساوت أحجامها.
كل ذلك كان يحدث وبوتشوا يدمدم مانحا لذلك الجسد الذي يتخبط أمام قدميه مآلا تعبيريا بخيارات شكلية متعددة. وحين استوى العبور من دلالة المحارب إلى دلالة التمساح كما نعرفه الآن، وتحققت كل الأشكال وتداخلت بما يتلاءم مع الشكل النهائي لصيرورته الفنية، رفع رأسه إلى السماء مخاطبا جمهورا لا يراه:
«لن أشعر بعد الآن بالحاجة للظهور.. هذه الأرض ستظل حية ما دامت التماسيح لا تسمح بأن يهزمها أحد!»


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 12/07/2024