بيت الشعر يحتفي بالتجربة الشعرية للشاعر عبد الله : زريقة دورة أكاديمية تقرأ أربعة عقود من فرادة شعرية لافتة

 

ينظم بيت الشعر، وفي إطار تفعيل مقررات مؤتمره الأخير المتعلقة بمواصلة قراءة التجارب الشعرية المغربية المضيئة، وإغنائها بالمساءلة والحوار، الدورة الأكاديمية الخاصة بتجربة الشاعر عبد لله زريقة، وذلك يومي 18و19 دجنبر القادم بالدار البيضاء. وقد وضعت اللجنة المشرفة على الدورة ورقة تأطيرية قاربت التجربة الشعرية الباذخة للشاعر المغربي عبد لله زريقة، من عدة مداخل: في قلقها الشعري وتورطها العميق في الشرط الإنساني، وإبدالاتها الحداثية في السياق الوطني والعربي والعالمي. ولغنى وخصوبة هذه التجربة والقراءة الواعية لخصوصيتها، ندرج مقتطفا من هذه الورقة.

ثمة تجارب، في الشعر المعاصر بالمغرب، تَخُطُّ لِفرادة فنية تُضيء مَجاهيل مُمارسة شعرية، خارجة بقوة مِن ضَغط الواقع والسياق ومُخلفات البنية التقليدية في الِانتاج والتلقي. تجاربٌ لَمْ تَعبُر زمن الحداثة خَطفا ومُروقا، وإنما مُكابَدة صَعبة استدعت الإنصات والمُساءلة والحِوار والصمت والمحو والمُجازفة. أفعالٌ تنطوي على وَسْمٍ مُتعدِّدٍ لِحداثَة كتابَةٍ تَنظُرُ لِتاريخِها الشَّخصِيِّ ولإفقِها العربي والكوني. أفعالٌ جَعلتِ اللغة الشعرية، هذه المرة، مَوقِع التزامٍ، على أرضِها تَشِمُ الذاتُ مُكابداتِ أثرها وَوُعودِها وتَحوُّلاتِها. اللغة الشعرية هي إذن مَدار الصِّراع والحُلم، على أرضها تُبنى الأشكال وتَتحطَّم، على نَحْوٍ يَجعل لِلمُماراسة الشعرية، برنينِها الأونطلوجي، تاريخا ومَحطَّات.
تَجربة عبد لله زريقة عَلامة مُتوهِّجة في هذا السياق. لَمْ تَرث شِعريَتها على نحو هادئ وبرَّاني، وإنما اختبرتْ حداثَتها على أرض جَسَدِها الشِّعري واللُّغَوِي بما هو امتداد حَميمٌ للجسد الحيٌّ في قلقِه وسَعيِه لِلعيش والحُرِّية. إن أسئلة السياق الحارق عَثرتْ لِنفسها، بالتدريج، على أجوبة في اللغة الشعرية ذاتِها، التي كابدَتْ إبدالَها الحداثي بالتضحية بِغير الشِّعري في أفقِها ووَعدِها.
الحارق في أسئلة السياق، اندمجَ في أفق لغة شعرية تَختبرُ الشرطَ الإنساني، وتُعيدُ، في ضوء مُكابداتِه، خلقَ شَكلِها الفني الحداثي. وليس الشكلُ، ضمن هذه الرؤية، لُعبة شكلية مُتْرفة، مُتحرِّرة من الأعباء، وإنما ديدنٌ فنِّي أونطولوجي يولدُ عبرَه الجسدُ الشعري وتنحفِرُ فيه تَوتُّراتِه ومُكابداتِه.
اِختبَرَ عبد لله زريقة حداثَته الشِّعرية اختبارَ قَلَق. وقد انتظمتْ «ثورته» لِتُصبِحَ توتُّرا باطنيا، ليس فحسب حِداداً على «موت» اليوتوبيا، وإنما على انهيار قيمة «الإنساني». إن التزام الشاعر تَزحزحَ عن مَوقِعه، باطرادٍ مع تَزحزُحِ القيمة المَرجعية لِلحقيقة ولِكُلِّ حقيقة، بِغَضِّ النظر عن إطارها المَرجعي والثقافي. مُكابدَة هذا الِانهيار، الذي سَيتجذَّرُ في اللغة الشعرية والمفاهيم المُسيِّجة لها، سَيُوَسِّع أفق الحِداد، بِجَعله حِداداً على الإنساني، وليس مُجرَّد انجلاءِ وَهْمٍ وَطنِي. هنا، لَمْ يعُد عبد لله زريقة أسيرَ ثورة أفقيةٍ تأسَرُ اللغة الشعرية في نموذج أو شِعار، وإنما تفجرتْ حساسيتُه لِتنتظم في «ثورة باطنية» عمودية، حَرَّرتْ لُغته وجَعلتها قادرة على امتصاص وتَحويل قلق ثقافة كونية، تَكثَّفتْ خاصَّة في ثقافة ما بين الحَربين الكَونِيتين وما بَعْدَهُما.
روح العبث والسوريالية استجابا شعريا لِثورة عبد لله زريقة، ولكنَّهما تَخلَّصا من إطارهما النظري وهما يُواكبان انحدارا عميقا في ظُلمات الذات، في استجابة لصوفية وثنية أقرب إلى العفوية بالرغم من الوشائج الرهيفة التي تشُدُّها إلى الأفق الفكري. اللغة الشعرية تعيد صياغة أسُسِها الفكرية والثقافية، على نحو يُخلِّصُها من كل إطار مَدرسي أو تصلُّب نَظري. اللغة الشعرية تعيدُ أساسا بناء الذات في ضوء مُراجعاتِها وكشوفاتِها المُستمرة، فتدَمّر كل كوجيتو يتأسس على أسبقية الوعي أو الفكر. الكوجيتو هنا شِعري يَرتبِط بِهبات اللغة الشعرية التي تُعيدُ اكتشاف الذات بالانحدار إلى مهاويها البعيدة. اللغة الشعرية، بِذاتِ القَدْر، تعيدُ اكتشاف طاقاتِها نَفْسِها، في الوقتِ تَخترِقُ عَموديا أشياء اللغة والعالم، لمُمارسة فِعلِ الإيقاظِ وتفجير الطاقات المَطمورةِ.
سُريالية عبد لله زريقة غير مُخلِصة لِغَيْر جُذورِها، لِأنَّها مُنبثقة مِن تورُّط خاص في شَرطِها الإنساني، ومِن صياغة خاصة لِهواجِسِه وقلقِه. وهي أقرب إلى ينابع «اللاوعي» الشعبي التي تمنحُ لُغتَها الشعرية جذورا ثقافية خاصة، بِذاتِ القدْر الذي تَعملُ على إعادةِ اكتشاف وبِناء السِّيمياء السِّحرية لتلك الجُذور. ثمة صوتٌ غنائي «شعبي» يُعلِنُ أحيانا، في بداية الكلام الشِّعْري، عن هذه السِّيمياء بِفاعليَتِها الشعرية التي تَخترِقُ اللغة والمُتخيَّل، فيما هي تستدعي نداءاتِها الثقافية البعيدة. فاعلية تتحطَّم معها الحدودُ لِأنها تصيرُ حُدودا شِعرية، تَنصَهِرُ بداخِلِها الأقطاب وتندمِجُ الآفاق، فلا يَكون ثمة «لا وعي» شعبي إلا مُنصَهرا في عمل كبير لِلُغَة شعرية مُتوتِّرة، مقتحمة وغير مُهادِنة.
ثمَّة مَجهولٌ كبيرُ في الذات غَير مُنفصِل عَن العالَم وعَن اللغة الشِّعرية التي تَكتُبُهُما بِحَرَكاتٍ خاطفة، ولكنَّها حَركة ذات إصرار. لُغة ما تَنفكُّ تَعودُ مُكتفية بأوْهى الرَّوابط لِتنسُج رَتْقا وخَطْفا حِصَّتَها مِن مَجهولٍ يَكبُر بِاستِمرار. لا يَنفصِل هذا النسْجُ عَن حَساسية اللعنة وإلهامِها، الذي يَبني جمالية أخرى تَنْهَضُ على تبادُل بين «المَلاَك والشَّيْطان»، يَتعيَّنُ فيه على الأوَّل أنْ يُصغي لِكلام الثاني. لا تَنْغرِسُ لَعنة هذه التجربة في تُربة الشِّعر الرَّمزي، ولكنَّها تمدُّ جُذوراً أبعد مُخترِقة القِصة الدِّينية الأصلية، ومُنتمِيَة لفيْضِها الشِّعْري ولِمَا يَتوامَضُ في السِّيمياء الشعبية مِن رُموز وأخيِلة. وهُنا، تتقاطَعُ حَساسية اللَّعنة مع نَزْعَةٍ وَحْشِية وسِحْرية، عَبرها تَنزِلُ اللغة الشِّعرية إلى كهوف الذات، عَميقة الغَوْر، التي تَتوامَضُ فيها حياةٌ باطنية غريزية تبدو وكأنها تَبْدَأ، مُتخلِّقَة مِن العَدم أو مِن عَناصِر الطبيعة المُوغلَة في القِدَم.
تَتكشَّفُ تجربة عبد لله زريقة عن مَتاهة شعرية، مَسالِكُها المُتعرِّجة والغامضة تُومِض بالأحلام والكوابيس، بالأشياء الكبيرة أو المُتناهية الصّغر، بأشياء الأرض والسَّماء في توالُج مَحموم بين العوالِم السُّفلِية والعُلوِية، بين مَلذات الفِردوس والجَحيم، لأنها ملذاتٌ غير مُنفصِلة عن تيار اللعنة، الذي يَخترقُ العمَل الشِّعري، فَيحوِّل الكلمات والأشياء والعلاقات المُحتَمَلَة بَينهُما. تيار يَتغذَّى في لحظاتٍ كثيرةٍ على حَساسِية الخوف، ليس بِوصْفِه شُعورا سَلبِيا، يَتنظمُ في علاقة تضاد مع «الشجاعة»، بَل بِوصْفِه قُوَّة، هاجِسا مُهَيْمِناً، وشَرطاً مُؤسِّسا، بِدونِه تفقِدُ الحياةُ جَدارتَها، بَل اسمَها. فالخوفُ هو الذي يُسمِّي، وعن فاعليتِه تنتظمُ الحياةُ وأشياؤها في رَعْشَة ميتافيزيقية كبيرة.
يَتشكَّلُ خِطاب عبد لله زريقة بين الأنتَ والأنا، في تبادُلٍ يُؤسِّسُ لِغنائية أخرى، غِنائية مُنقَطِعة عَن نَبْع أو جَوهَر، وهي لا تُنشُدُ هذا الوصْلَ المفقودَ، بَل تُقيمُ في لَحْظَة تَمزُّقِها وتَغْرَق في عَبثية الحياة، وعَبثية المَسعى. تُقيمُ في تَقَطُّع يَكونُ استمرارية للِمزَق والشذرات. وتأتي بِنيةُ الاِستفهام لِتُوَسِّع الهُوَّة بين المعرفة ومَجهولِها في تشكيلٍ شِعري، لا يَتطلَّعُ إلى المعرِفة والإشباع، وإنما إلى مُراكمة الهواجِس المُعلَّقة وإيقاظ الأعلاق الدفينة أو المنسية، وملءِ الفراغ بالخوف، وإفراغ الكلام مِن المَعنى. في سياق هذا التمزُّق الغِنائي غير قابل للاِلتئام، يرْتَفِعُ صَوتُ نَزعَةٍ تهكُّمية، مُفْرغَةٍ من دواعيها الِاجتماعية. تهكمية ميتافيزيقية، تُدنِّسُ النبيل، وترفعُ القداسةَ عَن المُقدَّسِ ومُعجَمِه ومُتخيَّلِه الأثير. هُنا، يُقلَبُ المَنظور: الحِكمةُ تتهكَّمُ مِن نَفسِها، ويتوتَّرُ النَّفَسُ الفلسَفي فلا يُفضي لِغَيْر حِكْمةِ الفراغ والعَبث واللامَعنى. الشعرُ هو الذي يَقودُ هذه الحركة المُبَلْبِلة، التي تُحبِطُ الخطابات وتُؤزِّمُها، فيما هو يَشُكُّ في نفسِه، وفي جدارتِه بِحياةٍ لا شيء فيها جَديرٌ بأن يَحمِلَ المَعنى. (…)
قصيدةُ عبد لله زريقة لا تبدأ، وإنَّما تَنبثِقُ فجأة بِقُوَّتِها الذاتية وبِحاجَتِها إلى الكلام. كما أنها لا تنتهي، وإنَّما تَتوقَّفُ مثلما يَتوقَّفُ الماءُ عَن التدفُّق بِحُكمِ عارِض خارجي. ويَبقى هناك، في النهاية المؤقَّتة، وَعْدٌ بِالِاستئناف. يَقَع ذلك بين البداية والنهاية، ويَتخلَّلُ الشذرات والكتل الشعرية، التي تتكِئُ على ذاِتها في تجاوُر ميتافيزيقي أكثر مِن كَونِه عُضوي وتركيبي. القصيدةُ تنفُذُ خِلسة إلى مَكانِها الشِّعري بجِهتِه وقِوامِه المَجهولين. تَنفذ مُتجرِّدة مِن سُلطة البداية والنهاية، ومن «قدسية المَوضوع وطقوس المقام»، بتعبير فوكو، فالذات ليستْ أكثر من «فجوة رَهيفة» في المجرى العرَضي الكبير للشِّعْر.
حَيوية تجربة عبد لله زريقة، التي قَطعتْ أكثر مِن أربعة عُقود في مُكابدة كتابة شعرية مختلفة، هي التي حاولتْ هذه الورقة النظرية الوقوف عنده. ولكشف ثراء هذه التجربة وخصوصية مُمارستِها وإبدالاتِها في سياقها العربي والكوني، تأتي الحاجة إلى هذه الندوة الأكاديمية، التي تتوزع على ثلاث جلسات دراسية وِفق المحاور الثالية:
الجلسة الأولى تجربة عبد لله زريقة: رهانات اللغة الشعرية
الجلسة الثانية البناء والمتخيل الشعري في تجربة عبد لله زريقة: تحليل الممارسة النصية.
الجلسة الثالثة شهادات نقدية في التجربة الشعرية لعبد لله زريقة


بتاريخ : 28/08/2020