بين التشكيل والحرف العربي..عوالم رجاء بن مصباح الوجودية

رجاء بن مصباح.. فنانة تشكيلية اختارت الحرف العربي أفقا، والإنتاج التشكيلي حضنا، والتجديد الفني والجمالي هدفا. تنتمي هذه الفنانة لعوالم مدينة القصر الكبير الملهمة، حيث الانتماء وحيث التاريخ وحيث الخلود. انخرطت في مغامرة التجريب في وقت مبكر، واختارت تقديم حصيلة منجزها الشعري والتشكيلي في عمل تعريفي أنيق تحت عنوان «كنت وسوف أكون»، صدر سنة 2022، في ما مجموعه 105 من الصفحات ذات الحجم الكبير، جمعت بين مجموعة من النصوص الشعرية، وبين سلسلة من الأعمال التشكيلية، إلى جانب قراءة تركيبية للأستاذ محمد البندوري في المنجز التشكيلي للفنانة رجاء بن مصباح.
حرصت المبدعة رجاء بن مصباح على رسم نسق خاص في نهر مسار عطائها الإبداعي، يقوم على أساس تطويع الممكنات الحسية والجمالية الواسعة التي يتيحها الخط العربي في السعي نحو إنتاج نصوص على نصوص، وعوالم على عوالم، وألوان على ألوان، وأشكال على أشكال. مع الكتابة الحروفية، تعيد المبدعة رجاء بن مصباح بث الروح في ملكوت الحرف العربي قصد توسيع دوائر إشعاعه، بشكل يتجاوز حقول التلقي المسموع شعرا ونثرا، إلى مستوى الاحتفاء بأشكال التلقي البصري، المنتشي بحميمياته، والمنفتح على أحلامه، والمستند إلى غنى مكونات هويته الثقافية المتعددة المشارب والروافد والأبعاد. وبهذه الصفة، تتخلى الحروف عن دلالاتها التواصلية التقنية الصرفة، وعن إطارها الصواتي المحض، لتتحول إلى بؤرة لإنتاج الرموز والقيم، ثم للاحتفاء بإواليات الجمال، شعرا وتشكيلا.
تتخذ أعمال الفنانة رجاء بن مصباح بعدا ترافعيا من خلال قضايا لوحاتها التشكيلية، حيث يحضر الرمز بكثافة، وحيث يحضر الموقف بجرأة، وتحضر الذات لتعطي لنفسها الحق في خلق عوالمها المخصوصة عبر أدوات تشكيلية فريدة تصنع معالم التميز في تجربة رجاء بن مصباح. تحضر كثافة الألوان للتعبير عن آفاق الذات المبدعة، وتحضر كثافة الرمز للارتقاء بالحس الفني للمتلقي، وتحضر انسيابية الصباغة المائية لتسهيل الانتقال بين القضايا والمواقف والتعابير، سواء في الأعمال الانطباعية المباشرة، أم في التجديدات التجريدية المرتبطة بعوالم رجاء بن مصباح الفريدة.
يتحول الحرف العربي داخل عوالم رجاء بن مصباح إلى بؤرة لتوليد التأملات الصوفية العميقة في أسئلة الفردانية التي تطبع ذات المبدع. يتمطط الحرف داخل اللوحة مشيدا جسورا ممتدة نحو تشكيل ذهنيات الإبداع، قصد الارتقاء بأشكال التواصل اللفظي الاعتيادي واليومي، نحو عوالم التجريد التي تتيح للمبدع إمكانيات واسعة للانتشاء بتأملاته وبأسئلته وبقلقه. ولعل في العناوين التي اختارتها رجاء بن مصباح للوحاتها دليل على عمق هذه الرؤية التي تشكل مدخلا منهجيا لكل محاولات الاشتغال على ثنايا التاريخ الثقافي للفرد وللجماعة. نقرأ مع رجاء بن مصباح «مائدة المساء»، و»رحم ومواليد»، و»قوس وعشر أساطير»، و»جذور لا يبيدها القرض»، و»تجليات على حوض لكوس»، و»ضفاف لكوس»، و»قارورة السماء»، و»معارج فسيحة»، و»دروب الرجا»، و»كنت وسوف أكون»، و»هسبريس البعث من رماد»، و»كشف الظنون لمعرفة المكنون»، و»كن فيكون»، و»متاهات في ظل الذات»،…
وعلى هذا المنوال، تنساب لوحات رجاء بن مصباح، باحثة عن سبل تحقيق الانتقال السلس بين ثلاثة مجالات متداخلة في تجربتها الإبداعية، النص الشعري أولا، والحرف العربي ثانيا، واللوحة التشكيلية ثالثا. وبذلك، تنكسر الحواجز بين حقول هذه المجالات، لتعطي للمبدع فرص إعادة تشييد عوالمه المشيدة فوق جسور التآخي المفترض بين مجمل حقول الإبداع المتداخلة. لا يتعلق الأمر بتجارب البدايات الأولى، ولا بتمارين مدرسية حول قوالب الخلق والإبداع، بقدر ما أنها محاولة لإعادة مقاربة قضايا الحرف العربي عبر أسئلة التجديد الفني، ولإعادة توطين هذا الحرف داخل بيئته الحاضنة وداخل مجال إنتاج رموز الجمال وقيم البقاء وثوابت الخلود.
ويبدو أن المبدعة رجاء بن مصباح قد أضحت تدرك قيمة هذا البعد على مستوى جهود الارتقاء بالذوق الفني الجماعي، وفق ما تتيحه غزارة المحيط من مواد ومن أدوات ومن «بقايا صور». فكان لابد من خلق ألوان خاصة بالتجربة، وكان لابد من تفجير الأشكال الهندسية الكلاسيكية داخل فضاء اللوحة، حتى تصبح قادرة على احتواء شغب المبدعة رجاء بن مصباح وأسئلتها المميزة لتجربتها، وحتى تستطيع أنسنة قضايا محيطها المباشر، أي قضايا مدينة القصر الكبير.
تحضر مدينة القصر الكبير داخل أعمال رجاء بن مصباح، بأسئلة راهنها، وبألوان أزقتها، وبمجمل مكونات تراثها البصري الخصب والمتنوع. تنطق لوحات رجاء بن مصباح بأصوات تنافر الواقع، وتتقصى قيم الجمال والتميز داخله. يتخذ صوتها صورة صرخة ترددها فضاءات اللوحة المختزلة لمعالم المكان، مكان مدينة القصر الكبير بأبوابها وبأسوارها وبمعالمها الأثرية، وقبل ذلك، بوجوه أناسها البسطاء الطيبين.
كيف استطاع الخط العربي أن يختزل كل هذه العناصر داخل تجربة المبدعة رجاء بن مصباح؟ نجد الجواب، نظما هذه المرة، عندما كتبت المبدعة ما يلي:
«يسألونني من أنت؟
يا حرف:
روحي لك بالدلال والعفاف تجملت
ونفسي لك يا حرف بالفعال الصالحات توسمت
جبت معي الفضا وما سألت يوما
من أي معدن أنت ولا من أي العوالم جئت
وهم يسألونني من أنت؟

من أنت؟ ومن أين جئت؟
أمن هيكل من وميض
من نور الزيت ولدت؟
أبدار الذهب بين الجلود قبل
اندثار حرفة الأجداد بعثت؟
من أنت؟ ومن أين جئت؟
أأنت الطوبة؟
من طوب مصنع والدي ذاك
الذي كنت به لهوت أتيت؟
أمن قطعة صلصال، شبيهة بتلك
التي في طفولتي أبدعت جئت؟
من أنت؟ ومن أين جئت؟
بثقة أجابت: أنا الحروفية قالت:
كريمة أهل الفضل والفضائل
سليلة أهل النهى والبصائر
حفيدة المرحومين برفعة منزل
من نالوا النعمة «ت» بالذكر
من ورثوا النبوءة والكتاب
وكانوا أصحاب مسك وعنبر
من زهدوا في الرزق الوفير من
ماضي الأزمان عرفوا بالطهر

أغصان ترفع هامها بالديار
ها قد ولدت من جدور قديمة
ربما بعثت جذوة من نور…» (ص ص. 6-9).
من صلب هذا الانتماء الوجودي، ينبثق صوت «الحروفية» نجاة بن مصباح، ليضفي على عطائها صفة الخلود الخلاق، والعمق الصوفي المفتتن بمباهج الجمال والحياة، في الحرف وفي الإبداع وفي التميز.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 03/08/2024