علاقات المغرب إسبانيا -1- بين الرسمي والشعبي

يستدعي البحث الوافي والمستفيض في مجريات العلاقات بين المغرب واسبانيا ماضيا حاضرا وآفاقا للمستقبل، بأن لا يقتصر الأمر على الشق الرسمي المرتبط بتدبير الملفات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والتجارية والمالية وغيرها، بل علينا أن نولي بالغ الأهمية أيضا للشق الشعبي والنبش في تلك الصورة المتجدرة في المتخيل الشعبي القابعة عند كلا الطرفين المغربي والاسباني، على اعتبار أن الشعوب تظل دوما طرفا فاعلا وأساسيا تتأثر وتؤثر في العلاقات بين الدول.

 

العلاقة بين الشعبين المغربي والاسباني لها خصوصية وطابع مميز، بحكم الجوار البحري المحاذي، وتقاسم إرث سياسي، تاريخي، إنساني، ثقافي وحضاري مثقل بأحداث أغلبها مفجعة عرفت صراعات على مدى قرون (هجرات، حروب، فتوحات، غزوات، استعمار، ديانة، خوف، حذر، ترقب، مصير…) هو تداخل وتشابك اجتماعي جغرافي وقواعد سلوك ظلت مرتبكة وحزازات متكررة، وفق ما تنطق به حقائق تاريخية عديدة على أرض الواقع، لازالت تبحث لها حتى يومنا هذا عن أجوبة وتصالح عسير مع الماضي، على أمل فتح صفحة مشرقة عنوانها التآلف والتضامن والتعاضد.
ليس من السهولة بمكان طي صفحة ماض مكسور وتغيير صورة مشوشة غامضة وغائمة هكذا بجرة قلم، لكون النازلة مرتبطة بما هو ثقافي، مدني، إعلامي ومجتمعي…هي في المحصلة إذن قضية ذاكرة وذهنية مجتمع.
أين يكمن الخلل في هذه العلاقة المجتمعية؟ ولماذا كل هذه الأعطاب والجراح والندوب؟ وما هي الحواجز التي تحول دون أن يتمكن أهل العدوتين من الانتقال إلى علاقة ود وصداقة واحترام، ترقي إلى مناصرة كل طرف نظيره في قضاياه وأزماته ومحنه، بحكم ما يجمعهما من قواسم مشتركة شديدة الارتباط والترابط؟ وما هي آليات الاشتغال وكيف بالإمكان تغيير عقلية نمطية لمجتمع؟. أسئلة عديدة تتناسل إزاء هذه المعضلة في هذه العلاقة العصية الاستواء بين الشعبين المغربي والاسباني.
ليس من اختصاص هذه المقالة الإجابة عن هذه الأسئلة المعقدة في عجالة، فالأمر يتطلب شغل واجتهاد باحثين ومؤرخين وفعاليات سياسية وحزبية وبرلمانية وبلدية ونقابية ومجتمع مدني، ليس فقط للحديث والكشف عن مواطن ما يعتري هذه العلاقات من غموض وضبابية وقصور بمناسبة ندوات أو منتديات، بل من خلال الذهاب إلى أبعد وأعمق من ذلك عبر التواصل والانفتاح الدائم والـدءوب على الأرض بين الفاعلين المؤثرين في توجهات الرأي العام لاسيما الإسباني، الذي يجده المغاربة في كل مناسبة مجحفا خصما تعود على مزاج عنصري استعلائي عدائي بشكل غريب، مما يتطلب البحث بل التغلغل في الذهنية الاسبانية التي تنتفض كلما حضر المغرب.
بالعودة إلى العلاقات الرسمية بين البلدين فقد ظلت على الدوام متحركة دينامية، تتدافع تتأرجح بين حالات شد وجدب واصطدام وتنافر وفتور وبين حالات تقارب وود وتعاون وانسجام والتقاء على مصالح مشتركة. لا أدل على ذلك، ما شهدته هذه العلاقات بين ربيع 2021 وشتاء 2023، من تقلبات بسبب أزمة “ ابراهيم غالي/ ابن البطوش رجل الجزائر المزيف”، التي انتفض فيها المغرب وظهر بصورة مغايرة غير متوقعة أمام الإسبان والأوربيين، حين دفع بالعلاقة مع مدريد إلى حدود القطيعة.
لكن الأزمة لم تدم طويلا بل سرعان ما التف حولها الإسبان وطوقوها، تحت إكراهات أوراق ضغط ساهمت في حصول متغيرات مبنية على المصلحة والتعاون المشترك، بعدما لمسوا أن قواعد اللعب مع الجار الجنوبي قد تغيرت، عندما رفع سقف التحدي وتمرد في التعامل مع الأزمات الاسبانية بعد أن ضاق ذرعا بها، متسلحا بأوراق دولية رابحة ومؤثرة إزاء قضيته الوطنية. فكانت بذلك معركة سياسية دبلوماسية استخدم فيها المغرب كل ما أوتي من قوة ناعمة من أجل إيصال رسالته إلى الطرف الاسباني لتحقيق أهدافه، في مواجهة كانت مفتوحة على كل الجبهات باستثناء العسكرية.
لم يكن من خيار أمام الطرفين بحكم الجوار والمصالح المشتركة، سوى العودة إلى التفاوض والتراضي والتفاهم والتفهم للمواقف ووضع الأمور في نصابها. فلم تكن اللقاءات الرسمية المغربية الاسبانية العالية المستوى في مناسبتين بالرباط في السابع من أبريل 2022 وفي الثاني من فبراير 2023، تقتصر على بيانات وبلاغات وخطابات التفاؤل والانشراح والوعود كما كان في السابق، بل يمكن القول بأنها أرست بنيات صلبة تقطع مع الماضي وتدير ظهرها لكل ما شابه من سوء تفاهم وخلل واصطدام، في انطلاقة واعدة نحو مستقبل حددت قواعد سلوك مبني على الشفافية والحوار الدائم والثقة والاحترام المتبادلين.
فكانت محطة السابع من أبريل 2022، التي توجت بإصدار بيان مشترك تضمن خارطة طريق، حسمت فيه الحكومة/ الدولة الاسبانية موقفها من قضية الصحراء التي ظلت تؤرق العلاقات بين البلدين وتشكل نقطة افتراق وتباعد، عبر بيان شافي كافي لا لبس فيه تم التأكيد من خلاله على: « تعترف إسبانيا بأهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب، وبالجهود الجادة وذات المصداقية للمغرب في إطار الأمم المتحدة لإيجاد حل متوافق بشأنه. وفي هذا الإطار، تعتبر إسبانيا المبادرة المغربية للحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007 هي الأساس الأكثر جدية وواقعية وذات المصداقية لحل هذا النزاع.»
أما محطة الثاني من فبراير 2023، فقد سجلت انعقاد الدورة 12 للاجتماع رفيع المستوى بين البلدين، انتهى إلى التوقيع على 19 اتفاقية في العديد من مجالات التعاون ذات الصلة بقضايا تدبير الهجرة، والسياحة، والبنيات التحتية، والموارد المائية، والبيئة، والفلاحة، والتكوين المهني، والضمان الاجتماعي، والنقل، والحماية الصحية، والبحث والتنمية. اتفاقيات جاءت لتكريس الشراكة الإستراتيجية والدينامية الجديدة التي تشهدها العلاقات بين البلدين، بعد التوصل إلى تفاهم عام منفتح حول الإطار العام الذي يحكم هذه العلاقات حاضرا ومستقبلا.
إذا كانت العلاقات الرسمية بين الحكومتين المغربية والاسبانية، قد تحركت وبحثت لها عن منافذ ليس فقط لحل أزمة، بل بغاية ضخ دماء جديدة والتفاف حول خلافاتهما الماضية والآنية، من خلال اتخاذ خطوات شجاعة بأبعاد ورؤية سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية واجتماعية وتربوية لتنتقل بالتعاون بين البلدين إلى السرعة القصوى، تراعى فيها المصالح المشتركة وفق معادلة رابح رابح، والتأكيد على الاحترام التام للسيادة والوحدة الترابية للبلدين. فإن هناك مياه راكضة بين شعبي البلدين في انتظار من يحركها؟. قبل البحث عن من يحرك وجب أولا تسليط الضوء على مكامن الخلل وردود الفعل من هذا الطرف أو ذاك في هذه العلاقة الفريدة ذات الألغاز المتعددة.


الكاتب : محمـد بنمبارك دبلوماسي سابق

  

بتاريخ : 23/03/2023