بين مظاهر الإهمال وزحف الإسمنت وتلوث البيئة: الواليدية.. مؤهلات سياحية وايكولوجية وثقافية واعدة في حاجة لتدبير مؤهل

تعرف الواليدية، كل سنة، توافد مئات السياح المغاربة والأجانب بفضل ما تتمتع به من مؤهلات سياحية وثقافية وثروات سمكية وأحياء بحرية. في هذا الروبورطاج تقف الجريدة على بعض المشاكل التي تعرفها والركود الذي ضربها إما بسبب جائحة «كوفيد19» أو لأسباب أخرى، كما سنلقي بعض الضوء على مراحل تربية المحار الذائع الصيت والمترامية حقوله على طول بحيرتها…

روبورطاج: خديجة مشتري

لا يسع زائر الواليدية، تلك البلدة الصغيرة على ضفاف الأطلسي، والتي كانت إلى وقت قريب قرية للصيادين، إلا أن يعجب بجمالها الأخاذ الذي حباها به الله ويقف مشدوها أمام بحيرتها الفيروزية الشبيهة بالنهر الهادئ والتى تتهادى فوقها مراكب تنقل الزائرين إلى جزيرة رملية تحيط بها المياه ويفصلها عن المحيط خليج صخري يخفي وراءه شاطئا تتكسر على رماله أمواج هادرة أو هادئة، حسب الأحوال الجوية، يغري بالمشي أو السباحة أو ممارسة رياضة ركوب الأمواج التي تستهوي السياح الأجانب أكثر من المغاربة، إبان فترة الجزر تظهر وسط البحيرة جزر صغيرة مكسوة بطبقة من النباتات البحرية الخضراء التي تجذب إليها أنواعا عديدة من الطيور الباحثة عن صيد ثمين عالق بين الصخور.
سمّيت الواليدية بهذا الاسم نسبة إلى آخر سلاطين الدولة السعدية السلطان الوليد بن زيدان، الذي تذكر كتب التاريخ أنه هو من قام بترميمها وإعادة بنائها بعد جلاء البرتغاليين عنها، ولا تزال تضم إلى الآن آثارا تاريخية تعود إلى العام 1634م، من بينها قصبتها ذات البوابة الضخمة والبرج الذي تطل من أعلاه فوهة مدفع قديم، كما تضم قصر الملك محمد الخامس الذي كان يفضل قضاء فترات مهمة من حياته فيها وبنى مسجدا بقصبتها، بالإضافة إلى زاوية الفقيه الرحالة والصالح سيدي عبد السلام الغواص اليمني.
تستقبل المدينة، كل صيف، مئات السياح الذين يحولونها إلى مدينة صاخبة مليئة بالحياة ويساهمون في تسريع وتيرة الحركة التجارية بها بعد أشهر من الركود، لكنها هذه السنة، وبسبب ظروف الجائحة الوبائية، لم تسلم هي الأخرى من تبعات غياب السياح عن حركتها التجارية، رغم أن السياحة الداخلية عرفت بعض الانتعاش إبان شهور الصيف القليلة إلا أن ذلك كان دون المستوى المطلوب، خصوصا أن السياح الأجانب المعتادين على زيارتها غابوا عن شواطئها ومؤسساتها الفندقية العديدة، وهو وضع أثر سلبا على حركتها السياحية وظهر ذلك جليا على مجموع الأنشطة التجارية والسياحية التي تدر على الساكنة دخلا لا بأس به يقيها شظف العيش لباقي أشهر السنة.
على شط البحيرة ظلت قوارب صغيرة جاثمة على الرمال دون حركة منذ صدور قرار من السلطات المختصة نهاية الصيف يمنعها من القيام بجولات بحرية رفقة زائري المدينة لاستكشاف ما تزخر به البحيرة، التي يبلغ طولها حوالي 8 كيلومترات، بعد أن كان 12 كيلومترا، (يرجع سبب تقلصها إلى سبخات الملح، الملاحات، التي قضت على أربعة كيلومترات منها ) من مناظر طبيعية متنوعة، أو تعبر بهم إلى الجهة المقابلة للاستمتاع بوجبة سمك طازج مشوي على الفحم والسباحة في مياه البحيرة الخالية من الأمواج، يقول يوسف وهو بحار ابن المنطقة: لقد أثر هذا القرار على مصدر رزقنا الأساسي، فلم يعد باستطاعتنا العمل بهذه المهنة التي نتوارثها أبا عن جد، كل ما نفعله الآن هو الاهتمام بمراكبنا وإعادة صباغتها وترميمها في انتظار رفع المنع، نحن نعتمد في معيشنا الآن على ما ادخرناه في الفترة الماضية».
بالنسبة لطارق، وهو أحد شباب المنطقة الذي حول عدة منازل في ملكية عائلته إلى مكان جميل مؤثث بشكل بسيط لا يخلو من ذوق رفيع مكون من شقق وغرف لاستقبال السياح، فقد أكد أنه سجل هذه السنة مستويات منخفضة في رقم معاملاته، فقد غاب السياح الأجانب الذين يستقبلهم من مختلف بقاع العالم، وذلك عن طريق وضع الإعلان عن مؤسسته الواعدة في مواقع إلكترونية تهتم بالسياحة وقال: الأجانب ينبهرون بالواليدية ويفضلون زيارتها في كل الفصول، لأنها تتمتع بالمناخ المعتدل طوال 300 يوم، نقوم بكل ما يلزم لكي يقضوا عطلتهم في أحسن الظروف، الشيء الذي يشجعهم على العودة مرات ومرات، لكنهم هذه السنة لم يكونوا في الموعد، فقد منعتهم ظروف الجائحة عن زيارتنا.»
عدة حرف لم تسلم هي الأخرى من تبعات الوضع الصحي، بائعات الخبز المصنوع منزليا، بائعو المنتجات الفلاحية من بيض وحليب، الخضارون، الجزارون، بائعو بلح البحر أو ما يسمى «بوزروك»، والذين يجوبون الأزقة ببضاعتهم أو يضعونها على قارعة الطريق في أوان بلاستيكية في انتظار بيعها بأثمان بخسة ولا من مشتر… إلا بعض السكان أو زائري المدينة القلائل، فالركود ضرب أطنابه في المكان، وخيمت غيمته الداكنة على أرواح الباعة وظهر القلق على سحناتهم الملوحة بالشمس خوفا من العودة إلى بيوتهم دون تصريف بضاعتهم مع ما يعنيه ذلك من فقر وعوز وحاجة.
في الجانب الآخر من البحيرة تقبع مراكب صيد في مكان عشوائي يسمونه هناك مرسى دون أن يتوفر على أدنى مقومات هذا الاسم، فلا جدار يفصل المراكب عن بقية الشاطئ، ولا سور يحيط بها ويؤمنها من مختلف المخاطر التي قد تعصف بها، يقول أحد الصيادين بنبرة لا تخلو من حرقة: «هل هذه مرسى!؟ إن هذا المكان يفتقد لأدنى المقومات، أنا أمارس هذه المهنة منذ أربعين سنة دون أن ألاحظ أي تغيير في الوضع، فلا يزال مرسى الواليدية حلما بعيد التحقق، بعد أن كانت هناك وعود ومشروع ميناء لكن لم يكتب له النجاح، يوجد هنا ثمانون فلوكة مرخصة للصيد، بدون مستودع للتزود بالبنزين أو مكان للتبريد أو جرار لجر المراكب من المياه، نحن نطالب في كل مرة ببناء مرسى يستجيب لكل المواصفات، لكن من الظاهر أن هناك من يريد طردنا واستغلال المكان لمئارب أخرى»، في إشارة على ما يبدو إلى كثبان الرمال المحيطة بالبحيرة والشاطئ، والتي تغري البعض باستغلالها وبيعها إن توفرت له الظروف لذلك. يقول آخر «يضطر معظم الصيادين في هذا الوقت من السنة إلى النزوح نحو مدينة آسفي، وخلال سيرهم يرمون شباكهم في محطات، آملين في ملئها بما يجود به البحر من أسماك وبيعها في آسفي، أما هنا فليس هناك مشترون، فقد يضطر الصياد إلى الانتظار 3 أو 4 أيام حتى يتسنى له تصريف بضاعته، في غياب وسائل التبريد المواتية».
صادفت الجريدة في جولتها هذه بشاطئ الواليدية أحد أبناء الصيادين، الذي كان يقوم بفصل خيوط شبكة متهالكة للصيد من الحبل المحيط بها، قال إن «هذه شباكا قديمة لم تعد صالحة للعمل، لذا أقوم بالتخلص من خيوطها وسأركب واحدة أخرى جديدة مكانها»، وأضاف «نأتي بخيوط الشباك من مدينة آسفى ويقوم الصيادون بحياكتها لتصبح شباكا قابلة لصيد وخاضعة للمواصفات لصيد مختلف أنواع الأسماك والقشريات التي تزخر بها المنطقة، الشبكة الواحدة قد يبلغ ثمنها 3000 درهم، ويدوم الصيد بها سنة أو سنتين».
إلى جانب أنشطة الصيد والسياحة، كانت المدينة معروفة أيضا بالفلاحة لكنها، وللأسف، فقدت هذا الجانب الاقتصادي المهم، فقد أفل نجم طماطم وجزر الواليدية التي كانت تمتد فلاحتهما من زاوية سيدي الراضي على ساحل عبدة إلى سيدي عابد على ساحل دكالة، وكانت معامل تلفيف الطماطم المعدة للتصدير منتشرة في كل مكان، لكن ظروفا طبيعية وبشرية عديدة تظافرت لتلفظ الفلاحة أنفاسها بهذه المنطقة. فمع توافد السياح الأجانب وتحول الساكنة تدريجيا من المهن الفلاحية إلى السياحية، ومعاناة الفلاحين من التكلفة والتسويق لم يجد هؤلاء بدا من بيع أراضيهم لتبنى مكانها فنادق سياحية ومقاه ومنتجعات، بشكل عشوائي، وأصبح ما كان يسمى سابقا «الولجة» (الأراضى الصالحة للزراعة)، أو ما تبقى منها عبارة عن أراض جرداء و قاحلة إلا من بعض المساحات المزروعة التي يكابد أصحابها الظروف لزرعها في إطار ما يسمى بالفلاحة المعيشية.
حسب فاعلين جمعويين بالمنطقة فإن أسبابا عديدة أخرى ساهمت في أفول نجم الواليدية الفلاحي من أهمها التدهور البيئي الذي عرفته في العقود الماضية حيث تلوثت الأراضي بالأسمدة ومياه الصرف الصحي كما غزت الملوحة المياه الجوفية، كل ذلك عجل بالتفكير في إيجاد حلول لإنقاذ البحيرة من هذا التلوث البيئي الذي كان سيؤدي بها، لا محالة، إلى الاضمحلال والزوال، وقد تصبح بحيرة الواليدية أثرا بعد عين، لذا تم إدراجها ابتداء من سنة 2005 ضمن المواقع العالمية المحمية بمقتضى معاهدة «رامسار» وذلك نظرا لتوفر بحيرتها وخليجها وشواطئها الصخرية وكذا سبختها على مواصفات الأراضي الرطبة، وللإشارة فإن اتفاقية رامسار هي معاهدة دولية للحفاظ والاستخدام المستدام للمناطق الرطبة من أجل وقف الزيادة التدريجية لفقدان الأراضي الرطبة في الحاضر والمستقبل وتدارك المهام الإيكولوجية الأساسية للأراضي الرطبة وتنمية دورها الاقتصادي، الثقافي، العلمي وقيمتها الترفيهية. وتحمل الاتفاقية اسم مدينة رامسار في إيران (ويكبيديا).
زيادة على هذه الاتفاقية هناك مشاريع دشنها جلالة الملك محمد السادس خلال زيارته لها سنة 2009 منها مشروع محطة معالجة المياه العادمة والمخطط الفلاحي لحماية بحيرة الوليدية.
الواليدية التي كانت قبل التدهور البيئي الذي عرفته زاخرة بتنوعها الإحيائي من أسماك و سرطانات وصدفيات ونباتات وطيور عرفت ومنذ بداية الخمسينيات وافدا جديدا على أحيائها المائية استوطن بحيرتها وسرق الأضواء منها، يتعلق الأمر هنا بالمحار les huîtres، الذي تمتد حقول تربيته على طول البحيرة، وهوغني بالبوتاسيوم والمغنيسيوم والفوسفور والكالسيوم والزنك والنحاس والحديد والسيلينيوم، وأوميغا 3، والفيتامينات B و E، كما أنه منخفض الدهون.
لقد كان في البداية مجرد حلم أو فكرة ومضت في ذهن أحد الفرنسيين لتتحول بفضل الإصرار والمثابرة والرغبة في النجاح إلى واقع يفرض نفسه بقوة الآن، يقول أحد المختصين في تربيته رشيد داهين إن تربية المحار ببحيرة الواليدية «بدأت في سنة 1952، وقد جاءت الفكرة من أحد الفرنسيين (مسيو بانكلور أو الحاج البشير بعد اعتناقه الإسلام)، الذي لاحظ أن الواليدية لا تتوفر على هذا النوع من الأحياء المائية بل هو ينعدم في كل الشواطئ المغربية، طرح الفكرة على والدي الحاج أحمد داهين الذي كان أول مغربي يدخل هذه الصدَفة إلى بلادنا.» وعن أول بلد تم التعامل معه لاستيراد صغار المحار، قال الاختصاصي: «اليابان هو أول بلد تم استيراد المحار منه عن طريق الجو ثم بدأ يستورد من البرتغال وبعد المرور بعدة تجارب كتب لهذه التجربة النجاح. في الوقت الحالي تستورد صغار المحار من فرنسا ومنذ وصوله إلى البحيرة إلى أن يصبح جاهزا للاستهلاك يمر من عدة مراحل، ففي البداية يتم وضع الصغار (4 إلى 6 ميليمترات في حجم حبة العدس)، داخل صناديق خاصة هيئت خصيصا لهذا الغرض ثم يتم وضعها في المياه لتستفيد من حركة المد والجزر، فهي لا تتحمل التواجد في الماء البارد أو البقاء تحت الشمس الحارقة بشكل مستمر. وتدوم تربيتها من عام ونصف إلى أربع سنوات إلى أن تصل الحجم المطلوب القابل للاستهلاك (من 60 و 70 غ إلى 500 غ في بعض الأحيان)، وأضاف أن محطة «اوستريا» التي تعتبر أول محطة بالمغرب لتربية المحار تعتمد طرقا تكنولوجية متقدمة وتقنيات متطورة كالأشعة فوق البنفسجية التي تتمثل مهمتها في إزالة أي ملوث بكتيريولوجي وكذا يتم استعمال الكلور، وبعد إخراجها من البحيرة تظل الأصداف داخل أحواض التنقية بالمحطة لمدة 48 ساعة حيث يقوم المحار بترشيح الماء النظيف والتخلص من الملوثات، وقبل تسويقها لابد من المرور بمرحلة التحاليل المخبرية حيث ترسل عينات لمعهد باستور بالبيضاء للتأكد من جودتها وجاهزيتها للاستهلاك. وعن إمكانية الاستغناء عن استيراد صغار المحار من الخارج ومحاولة إنتاجها في البحيرة قال إن « هناك عدة ظروف تحول دون ذلك منها الحرارة غير المواتية كما أنها تعيش وتتوالد بالبحر الأبيض المتوسط المختلف تماما عن المحيط الأطلسي، هناك تجارب تمت بالداخلة وبحيرة مارتشيكا في الشمال لكنها تجارب لا تزال في المهد».
إذا كانت الواليدية تزخر بكل تلك المؤهلات السياحية والإيكولوجية الواعدة فإنها لا تزال تتخبط في مشاكل متعددة تتطلب مبادرات استعجالية للنهوض بها وكفاءات قادرة ومؤهلة لتدبيرها لإعطاء الأمل في مستقبل أفضل لشبابها وساكنتها والعمل على إنشاء قطب سياحي وايكولوجي ذي إشعاع وطني وعالمي بعيدا عن كل عشوائية وارتجال لن يؤديا إلا لمزيد من التدهور والإهمال.


الكاتب : روبورطاج: خديجة مشتري

  

بتاريخ : 26/10/2020