لمناسبة اليوم العالمي للكتاب الذي تحتفل به الأوساط الثقافية والعلمية، ومختلف دور النشر في العالم في الثالث والعشرين من شهر أبريل من كل عام كان الكاتب الدكتور محمّد محمّد الخطّابي (سفير المغرب السّابق فى كلٍّ من كولومبيا، والإكوادور، وبنما، وترينيداد وتوباغو، وغروناد) قد ألقى محاضرة باللغة الإسبانية تحت عنوان: (إضاءات على بعض مظاهر التأثير الحضاري، العربي – الأمازيغي الأندلسي في بلدان أمريكا اللاّتينية عبر شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) فى المعهد الإسباني “ميلشور دي خُوبيّانُوس” بمدينة الحسيمة (شمالي المغرب) التابع للسفارة الاسبانية فى الرباط، ووزارة التربية والتعليم والتكوين المهني الاسبانية، ولبعثات معاهد سيرفانتيس الإسبانية الثقافية الشهيرة في المغرب.
ولقد كان موضوع هذه المحاضرة مثيراً وطريفاً نظراً لنأي الرّقعة الجغرافية الفاصلة بين العالم العربي،والمغرب، وشبه الجزيرة الإيبيرية (الأندلس) وبين عالم أمريكا اللاتينية الذي أطلق عليه الإسبان عداة إكتشافه بالعالم الجديد، وتجدر الإشارة فى هذا الصّدد أنّ موضوع ومحتوى المحاضرة كان نتيجة التجربة الحياتية الواقعية المُعاشة ميدانياً عن كثب فى هذه الرّبوع والأصقاع النائية من العالم من طرف المحاضر الذي عمل سكرتيراً، ومستشاراً، ووزيراً مفوّضاً، في اسبانيا ، ثم سفيراً للمملكة المغربية فى العديد من بلدان أمريكا اللاّتينية لسنواتٍ طويلة قاربت الثلاثين عاماً، والتي تمخّضت كذلك على ولادة ثماني كتب حتى اليوم من تأليف المحاضر عن ذلك الشقّ الجنوبيّ من القارة الأمريكية فى مختلف مجالات الحياة الفكرية، والأدبية، والشعرية، والإبداعية، والنقدية، والإجتماعية، والتاريخية، والحضارية،والفنية،وفى مجال الترجمة وسواها فى هذه القارة الكبرى التي تربطنا بها أواصرُ شتّى ،وعُرى علاقات ووشائج متعدّدة فى طرائق العيش، وأنماط الحياة، وفى مجالات الطباع ، والتفكير، وبعض العادات والتقاليد والعوائد المشتركة على الرّغم من شحط المزار، والبُعد عن الديار .
وتجدر الاشارة أنّ هذه المحاضرة هي الخامسة من نوعها التي ألقاها الدكتور محمّد محمّد خطّابي فى هذا المعهد الإسباني العريق بالذات خلال العشر سنوات الأخيرة،هذا المعهد الذي تخرّج منه العديد من أبناء مدينة الحسيمة البررة الذين واصلوا دراساتهم العليا فيما بعد في الديار الاسبانية، والذي ما زال يقاوم الزّمن فى الدفاع والذود عن لغة سيرفانتيس التي كادت أن تلفظ أنفاسَها الأخيرة فى هذه المدينة، وفى سائر مدن شمال المغرب وجنوبه مثل الناظور، وتطوان، والشاون، وطنجة، وأصيلة ،والعرائش، وفى مدينة سيدي إفني، وسائر مدن الصّحراء المغربية العائدة الى حضن الوطن الغالي، ومعروف أنّ اللغة الإسبانية قد أصبحت في الوقت الراهن من أوسع اللغات إنتشاراً في العالم ، ولقد باتت تحتلّ اليوم منزلةً مرموقة، وتتبوّأ مكانةً هامّة إلى جانب لغات العالم الحيّة المعاصرة المعروفة من بينها لغتنا العربية الجميلة.
تأثيرات في مختلف المجالات
وقد عالج المحاضرخلال مداخلته فى هذا الملتقى الهام فى نطاق هذه التأثيرات العديد من المرافق، والقطاعات، والمجالات، والحقول الثقافية، الأدبية، واللغوية، والعمرانية، والمعمارية، والملاحية، والموسيقية، وفنون البستنة، والفلاحة، والطبخ وسواها من أوجه الحياة العامة فى هذه الأصقاع النائية من العالم البِكر الذي تمخّض فيما بعد عن نهضة أدبية مميّزة وفريدة في مجال الخلْق الابداعي تمثلت في آداب الواقعية السحرية التي تألق فيها صفوة من الكتاب المنتمين لهذه القارة أمثال غابرييل غارسيا مركيز، أوكتافيو باث، وميجيل أنخيل أستورياس، وماريو برجاس يوسا، وكارلوس فوينتيس، وخورخي لويس بورخيس، وبابلو نيرودا، وروبين دارييّو، وومونتيرّوسّو، وخوان رولفو، وسواهم من المبدعين العالميين، وأشير أن عالم هذه القارة الأمريكية البكر أصبح يحمل إسماً وضعه لها ”أمريكو بيسكوثيو”، وليس اسم “مكتشفها” عام 1492 المغامر الجِنوي (نسبةً الى مدينة جِنوة الإيطالية) المعروف كرستوفر كولومبوس.
تسامح وتلاقح
وأكّد المُحاضر أنّ الإشعاع الذي عرفته الحضارة الإسلامية فى شبه الجزيرة الإيبيرية كان إشعاعاً فريداً من نوعه نظراً لأجواء التعايش، والتفاهم، والتسامح، والتسامح التي وفّرتها، وأشاعتها إبّانئذ هذه الحضارة المشعّة والمتألقة فى كلّ من إسبانيا والبرتغال، حيث تعايشت الأديان السّماوية الثلاثة الإسلام، والمسيحية، واليهودية فى وئام، وتآلف، وتناغم وإنسجام، هذه التأثيرات ستصل بعد ذلك إلى مختلف البلدان الأوربية، وبعد ذلك إلى مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية بعد سقوط غرناطة آخر المعاقل الإسلامية فى إسبانيا 1492. هذا الزّخم الحضاري المتنوّع الذي إتّسم بالتعددية، والإنفتاح، والتسامح، والتعايش، والتثاقف، والمثاقفة والإبتكار كان له تأثير بليغ كذلك على العقل الأوربي، والتفكير المسيحي فى مختلف ربوع القارّة العجوز كما هو معلوم.
وأوضح المحاضر أنه في القرن الثامن الميلادي ظهرت،وترعرت، وسادت وتألقت حضارة راقية أشعّت على العالم المعروف فى ذلك الإبّان الذي كانت معظم أرجائه لا تزال تغطّ فى دهاليز التأخّر، وتتخبّط فى متاهات التزمّت والجمود. وقد سلّطت هذه المداخلة الأضواء الكاشفة كذلك على بعض الأساليب المعمارية، واللغوية،وفنون الطبخ واعداد الحلويات على وجه الخصوص التي وصلت إلى العالم الجديد مع الإسبان والبرتغاليين، هذه التأثيرات بصفة عامة فتحت المجال لظهور وإنتشار مصطلح جديد له صلة وثقى بها على إختلاف مشاربها ومرافقها، وهو مصطلح” الثقافة الثالثة” متمثّلا فى الثقافة الإسلامية إلى جانب الثقافتين الإيبيرية (الإسبانية والبرتغالية) والهندية الأصلية في مختلف ربوع القارة الامريكية.