تأملات في حالة شرود .. نظرة غريبة

كنت أقف ببهو قاعة مسرح رفقة أشخاص آخرين، في انتظار بداية العرض الأول لإحدى المسرحيات، أو ما قبل الأول كما يحلو لبعض المنتسبين لأب الفنون أن يطلقوا عليه، عندما غافلتني تلك الصديقة الجديدة – التي يجمعني وإياها العمل الجمعوي والاهتمام بالفن والأدب – دون مقدمات بطرح سؤال مباشر علي :
– “الأزهر” ذاك الذي يحمل اسما شخصيا مثل اسمك والذي قلما أراك دونه أو أراه دونك. منذ متى وأنتما تتعارفان ؟
تبسمت في وجه سائلتي لأخرجها من حالة الارتباك، الذي أحسسته طوقها مباشرة بعد طرح السؤال، لدرجة أن احمرارا طفيفا كسا وجنتيها البيضاويتين، كأنها ألقت استفسارها ثم ندمت معتقدة أن في الأمر إحراجا. ولأنها حزت في نفسي حافظت على ابتسامتي الواسعة في وجهها، مقررا كذلك مواصلة حديثي معها بنبرة ساخرة، إذ أجبت على سؤالها بسؤال آخر :
– كنت وإياه منذ هنيهة تقفان غير بعيد عني، لم لم توجهي السؤال إليه؟
– وهل تظنني لم أفعل ؟
بنفس نبرتي وإيقاعي في الكلام واصلت كممثلة فوق ركح مسرح :
– لقد طرحت عليه السؤال ذاته، لكنه بعد أن ابتسم في وجهي كما فعلت أنت منذ لحظات، أحالني عليك مشيرا بسبابته اليسرى، قائلا بنبرة فيها من التهكم بقدر ما فيها من جد.
– اذهبي إليه، هو المختص بالإجابة عن هذا السؤال.
دعوت محاورتي للجلوس على كرسيين منزويين في أقصى يمين بهو
المسرح. صمتت وشردت كأنني أستعد لإلقاء مونولوج فوق الخشبة، وبالفعل غدا جوابي المكرر لعدة مرات حول نفس الأمر أشبه بمونولوج مسرحي، أحفظه وألقيه دون أن أبدل أو أتصرف في أية عبارة منه. ومع ذلك أستشعر فارقا، يصعب علي تفسيره بين إلقاء جواب وإلقاء آخر، هو الفارق ذاته تقريبا الذي يحسه الممثل الحافظ لدوره والمتمكن منه، بأن كل عرض جديد، هو مغاير عن الذي سبقه.
ظلت جليستي متقوقعة في صمتها، وهي في حالة ترقب لما سأنبس لها به.
وهذا ما بحت به لها :
– عندما سقط رأسي أرضا للمرة الأولى في حياتي، وما أن فتحت عيني حتى تسمرتا فيه، في ذلك “الأزهر”، الذي خاطبني – دون مراعاة منه أنني جديد على هذه الحياة – بلهجة ساخرة، سأكتشف في ما بعد أنها ديدنه في العيش والحياة والعمل :
– فين تعطلت آهداك العيان ؟ يالله نوض تبعني.
ظللت أبحلق فيه بعينين شبه مفتوحتين وشبه ناعستين. أذكر أنني وقتها كنت في أمس الحاجة لنومة عميقة. عندما أفقت منها كان هو لا يزال يقف بمحاذاة رأسي. لم ينبس بحرف هذه المرة. ظل صامتا وهادئا، قلما سأراه على مثل هذه الحال في القادم من أيامي معه. ابتسم في وجهي ابتسامة عريضة وأشار لي برأسه أن أتبعه، ففعلت راسما على وجهي ابتسامة كابتسامته.
لحقت به وتبعته. كان يسير بخطى جد سريعة، لدرجة أن أتعبتني في البدء عملية اللحاق به، لكنني روضت نفسي على السير قدما وبحركة أسرع قليلا، إلى أن أصبحت وإياه نمشي جنبا إلى جنب، ومع ذلك ظل في أحايين يسبقني ببضع خطوات، وفي أخرى أسبقه أنا أيضا بمثلها، ثم نعود مجددا للسير على نفس الخط. يقرر الوجهة التي سنقصدها فلا أناقشه البتة. وأرسم أنا لاحقا خارطة طريقنا، فلا يعترض ولا يبدي رأيا مخالفا.
مرة كنت في طريق واسعة وعريضة وخالية من أي بشر. أحسستني سيد الكون.
كانت عقيرتي على وشك أن تطلق عاليا صرخات مدوية، كنت من خلالها أرغب في التيقن بأنني فعلا وحيد الطريق، عندما أفاقني نداء من خلفي. التفت فكان هو ذاته يسرع الخطو في اتجاهي، راميا في وجهي عبارة بنفس النبرة التي سمعتها منه أول مرة :
– تسناني آهداك العيان مالك زربان ؟
تنفست الصعداء عندما أكملت الحكاية، التي سبق ورويتها لمرات عدة. في هذه المرة أيضا لم أحذف منها أو أضف لها كلمة واحدة. حافظت على صيغتها التي ألقيتها فيها – بشكل تلقائي ودون إعداد أو تفكير مسبق- في وجه السؤال ذاته منذ أعوام. كان حكيي يختتم دوما بضحكة مجلجلة من مستمعي الذي يرغمني على السير على خطاه، مشاركا إياه ضحكه الهستيري لكن شيئا من هذا القبيل لم يصدر عن منصتتي الجديدة، التي عوض ذلك أرسلت إلي نظرات غريبة، قبل أن تقف على حين غرة وتتوجه صوب الباب المؤدي إلى صالة العرض، وقبل أن تفتحه بيدها اليمنى استدارت بجنبها الأيسر تجاهي موجهة إلي النظرات الغريبة عينها. أنا الذي كنت أظنني دوما خبيرا في فهم وتفسير وقراءة لغة عيون النساء، وجدتني – كتلميذ فاشل-عاجزا عن سبر أغوار نظرة من عينيين بنيتين لصاحبتها الفتاة قصيرة القامة، ذات البشرة البيضاء والتي يلازمها خجلها ويرافقها كظلها.
عندما أفقت من حالة شرود لم تسرح بي سوى لدقائق معدودة، اكتشفت أننا بقينا لوحدنا ببهو المسرح. أنا و”الأزهر” كنت أقتعد كرسيا في أقصى اليمين وهو يقتعد كرسيا آخر في أقصى اليسار. وقفنا في نفس اللحظة. توجه كل واحد منا نحو الباب، الذي وصلنا جواره في نفس الهنيهة. دفع كل واحد منا جزء الباب المجاور له، وكتلميذين يقبض كل واحد منهما على يد زميله في الصف المدرسي، ولجنا قاعة المسرح.


الكاتب : عبد الحق السلموتي

  

بتاريخ : 30/08/2023