تأملات في فلسفة الحب

« بدون حب كانت حياتي ستصبح خطأ»
 نيتشه

قصص الحب صامتة عن الحب، بمعناه الرومانسي، وكأن الحب لا يوجد حقا. إنه مجرد حلبة للصراع وبهرجة للرغبة الجنسية إلى أن تقول نهاية القصة «تزوجا وأنجبا الكثير من الأطفال «. الحب ببساطة هو الزواج وإنجاب الأطفال.. تعريف نمطي للحب، بينما الحب لا يتحقق إلا في الجمال حين ينام الحبيب بين ذراعي المحبوب ليظهر جليا بأن الحب، حسب لاكان، هو الذي يركز على وجود الآخر في حد ذاته «على الآخر الذي يتدفق إلى حياتي ممزقا ومشكلا إياها من جديد». فبأي معنى يمكن للحب أن يصبح هو الحب؟ وما الذي يمنعه من ذلك ؟ ألا يكون الحب في هذا العصر المضطرب قد هرب من الوجود ؟.
والحال أن الحب أصبح يتجسد في العلاقات المادية وتبادل الرغبات، ولذلك لا يحتاج إلا إلى رقم الهاتف والواتساب لتعزيزه واستهلاكه. فالعشاق تحولوا إلى مجرد سحرة وآسرين للحب في الأوهام ، وحرموه من حريته مع العلم أن جل قصص الحب تحكي عن نضال الحب من أجل الحرية.فهو لا يتقيد بالأسرة أو الطبقة والعرق والدين . فحسب سقراط « لا نسمح للمحب أن يحب جزءا ويرفض الآخر في محبوبه، بل الإيمان بالحب في كليته». لكن أحد تلامذته قال «عزيزي سقراط ما الصلة بين هذه النزهة على شاطئ الحب وتعريف الفلسفة؟» ، فالذي لا يتخذ الحب نقطة بداية له، لن يعرف الحقيقة ولا الفلسفة .
الحب نبيذ مسكر لمن يعرف قيمته الوجودية،ويتمتع بعذوبته، ويتيه في جنونه،هو مشهد سينمائي من اثنين ينظران إلى بعضهما بشغف، ولا يهتمان بما يجري في العالم. الحب صدفة ترسخت لقاء بعد لقاء كما القصيدة عند مالارميه ترسخت كلمة بعد كلمة.ينبغي ابتكار الحب ليتحول إلى محاكاة للأبدية من أجل أن ينزاح عن الزمنية .هكذا سيبتعد عن الموت، وتقول الأسطورة إنه يستمر إلى ما بعد الموت .
ومهما يكن هذا الشغف بالحب لذيذا، فإن الحب في صورته الأخرى يظل هو مصدر الأزمات الوجودية العنيفة، حيث يتحول المشهد بين الاثنين إلى دراما فهو كالسياسة أساسها الحرب، كما قال باديو، الناس تموت بسبب الحب «هناك موتى، وحمقى، وهناك منتحرو الحب «إنه ليس سلميا بل ثوريا، بيد أن العقلاء يستثمرون هذا الصراع لكي يتغلبوا على المستحيل ، والرقي إلى مقام الفن والإبداع «لقد افترقنا، لكن لم نتوقف عن حمل بعضنا البعض ..أصبحنا بعيدين عن الحب، ولم نتجاوز المستحيل يعني بداية الحب «.
ابتكار الحب، باعتباره فكرة كتلك الأفكار العظيمة في الحياة، بيد أن العلاقة بين هذه الفكرة والجسد الإنساني هي ما يدخل الحب في متاهة القلق والتوتر والألم والعنف ، ولذلك نجده يتحرك من الرومانسية في اتجاه التطرف، من الكلام الناعم إلى الخصام والمشاجرة، ولعل هذه الدراما هي ما تحتاجه السينما لأنه ماذا كانت ستقدمه السينما لو أن الحب غير موجود ؟ما الثمن الذي دفعه الحب لكي ينتصر في السينما وينهزم في الواقع ؟
الحب الأفلاطوني مثل الحقيقة لأن بذرة المطلق مغروسة في ماهية الحب. فعندما أندهش أمام وجه جميل، أكون في حركة تجاه فكرة الجمال، ذلك أن الحب من طبيعته حرية وجمال والمطلق ليس سوى هاتين الصفتين، ولن ينجح الحب في مهمته بدون الحركة من أجل الاقتراب من فكرة الحب باعتبارها ذات تأثير أنطولوجي، هدفها قدح ماهية الجمال في عقل الإنسان. وفي الحقيقة إن الحب لا يتذوقه سوى العقلاء لأنه بناء الحرية لكن أي نوع من الحرية «الحرية في نقطة محددة تماما =ما نوع العالم الذي يراه المرء حين يختبره من وجهة نظر اثنين وليس واحد ؟ كيف يصبح العالم حين يختبره الإنسان ويعيشه من وجهة نظر الاختلاف وليس الهوية ؟ هذا هو الحب. إنه المشروع الذي يشمل كل المعاناة « (آلآن باديو).
يتضح إذن أن تفكيك الحب فلسفيا يضعنا أمام سؤال وجودي لا يقل أهمية عن سؤال الزمان والموت والعالم الآخر، بل إنه مشروع وجودي يتوجه نحو بناء العالم من خلال الحفاظ على بقاء النوع الإنساني واستمرار الحياة، وترديد أغنية الحب هي نشيد الأناشيد ، الحب باعتباره إرادة قوية لا تنهزم أمام المحن، وليس الحب على ركبتين راكعتين، وألما مستمرا فهذا ليس بحب على الإطلاق، حبا سلبيا وورعا وخاضعا. فالحب القوي المبتهج بوجوده يتغلب على المستحيل، حتى في اللحظات الصعبة. وبعبارة أخرى، المستحيل هو الوجه الآخر للحب.إنه بداية الحب، وإلا ما معنى تقديس الصدفة ؟ وما معنى اللقاء ثم اللقاء ؟ وما معنى نسيان الذات في الآخر ؟.
الأنا تختبر نفسها في العالم من خلال الحب كإمكانية على ولادة العالم ، لأن ميلاد الطفل من الحب هو ميلاد للعالم من جديد. وقد يساهم في بناء الحب كصدفة، أو ما يسميه الشاعر رامبو ابتكار الحب من جديد، كما يبتكر الزمان في كلمة «دائم». أحبك دائما هي الضمانة على الاستمرار، الالتزام بالبناء، تجاوز الخلافات، والتشبث بالغاية، التهديد الآمن، الحرب مع غياب المخاطر. فالمشاجرة تتحول إلى عتاب لأن كل واحد يريد من الآخر حسن الفعل.ما يريده الحبيب من المحبوب هو الاهتمام، وما يريده المحبوب من الحبيب هو العناية، وتستمر الحياة.
وبما أن الحب الرومانسي يركز على نشوة اللقاء، وتنساب الذكريات أمام العشاق كما ينساب النهر في الهضاب، فإن الحب المنفعي يركز على تبادل المنافع ويعلنان أنهما يحبان بعضهما بعضا ولو بالكلمات لكن هذا الحب لا يدوم طويلا لأنه قابل للانفجار، وهناك الاتجاه الشكي الذي لا يرى في الحب سوى وهم وخرافة.وغالبا ما يكون رواد هذا الاتجاه مرضى الأنفس بالجنس الاستهلاكي .ومع ذلك نتساءل: عن أي حب ينبغي أن نتكلم الآن ؟ بل أكثر من ذلك، هل ما زال الحب هو الحب في هذا العالم المضطرب؟ وكيف يمكن نسيان الحب وتذكر اللذة؟.
يحكي أفلاطون في أحد محاوراته، أسطورة فيدر التي تصف خصام بعض الأشخاص الذين يتنافسون من يمر الأول فوق المعبر الضيق، وإذ ينتهون في صراعهم إلى نسيان هدف سباقهم نفسه وهو الصعود نحو سماء المعقول.هكذا هو منطق هذا العصر الذي يختلف عن منطق الكشف العلمي الذي لا يساعدنا على دحض الأساطير، وكأن جل الأساطير اشتملت في داخلها على استباقات هامة لنظريات علميةحسب كارل بوبر . ولعل الأساطير المعاصرة تجسد في التكنولوجية « أقصد الانترنيت والهاتف والوا تساب ، وغيرها، وأصبح الحب جليا في هذه الأساطير ، مما حكم على رؤية العالم بالتوجه نحو الإقامة الأبدية خارج الذات والتشوق للسكن هناك . ولم يعد النظر هو الملكة المفضلة بين العاشقين المحرومين من الحس الرومانسي والنزعة الإنسانية لأن التقنية مزقت كينونتهما وحولتهما إلى أشكال هندسية تقدس أسطورة التكنولوجية .

المراجع

1_ نيتشيه «هكذا تكلم زرادشت» ترجمة فليكس فارس
2_هايدغر» أصل العمل الفني « دار الجمل
3_ابن باجة «رسالة الوداع « تحقيق ماجد فخري – دار النهار
4_ارسطو «دعوة للفلسفة» ترجمة عبد الغفار مكاوي – منشورات الكويت
5_افلاطون « القبيادس « الأعمال الكاملة بالفرنسية
6_ فوكو» تأويل الذات « دار الطليعة
7_هايدغر «ما الفلسفة «؟ ترجمة عبد الرحمن بدوي – دار الثقافة مصر
8_عزيز الحدادي «متعة الفلسفة» – دار ما بعد الحداثة
9_عزيز الحدادي «ما أروعك في المدينة الجاهلة « -دار ما بعد الحداثة
10- عزيز الحدادي،» النساء والحب» . إفريقيا الشرق
11- عزيز الحدادي « الفلاسفة والنساء» . رياض الرايس


الكاتب : د. عزيز الحدادي

  

بتاريخ : 23/02/2024