المواطن الإستتيقي المستقبلي
ليس رهان المدرسة بناء فرد متعلم محدود في الكفايات العلمية أو الأدبية فحسب، بل إن الدور المنوط بها –بالإضافة إلى ما سبق- هو خلق مواطني المستقبل المدركين لشرطهم الوجودي والاجتماعي، شرط مرتبط أساسا بالحس الإستتيقي والفني. وتأتي مرحلة التعليم الإعدادي بوصفها منعطفا جوهريا في مسار “الطفل -الشاب-التلميذ”.. محطة هامة لتنمية -إلى جانب إدراكه لجسده وذاته ومحيطه- مهارات مختلفة للتعبير عن أفكاره وٱرائه والتفاعل مع محيطه. وغالباً ما تكون هذه المرحلة التعليمية والعمرية، هي الفرصة الأولى للطلاب للتفاعل في الأماكن العامة (مثل المدرسة). مما يسمح لهم بتطوير روح الفريق والتعاون، ويساهم في انخراطهم المجتمعي ويوسع ثقافتهم العامة. لهذا يلعب الفن الدور الأساس في هذه العملية، لارتباطه بالجانب الحسي (الإمبريقي) والمهاراتي والتفاعلي.
أدركت مؤسسة “مجموعة مدارس الشريف الإدريسي”، هذا الدور الفعال للفن في تكوين “المواطن الإستتيقي” المستقبلي ذي “النزعة الجمالية”.. والذي يميزه عن صاحب النزعة العقلية، كما يخبرنا جون ديوي Dewey، هو الاختلاف في تأكيد الجانب الهام من ذلك الإيقاع المستمر الذي يميز تفاعل الكائن الحي مع بيئته. وإن كانت المكانة القصوى للتجربة عند كل واحد منهما تعد واحدة. لهذا كل مبادرة تعليمية تسعى لتنمية الذكاء الفني والحس الجمالي لدى الطفل-الطالب، هي عملية تروم تطوير “خبرة إستتيقية” لديه، و”الخبرة حين تصبح ‘خبرة حقة’، بكل ما تنطوي عليه الكلمة من دلالة، فإنها تستحيل إلى حيوية من أعلى درجة”.
ولا يكفي تدريس الفن وتاريخه –فحسب- لإنشاء جيل واع بدور الفن في بناء الشخصية والذات والانخراط في صلب المجتمع وامتلاك رؤية خلاقّة، بل على المدرسة أن تنفتح على محيطها الثقافي والاجتماعي وتجعل الطالب -الطفل-الشاب فاعلا في هذه العملية، وهذا ما نلمسه في ما يقوم به أطر التدريس والإدارة في مؤسسة “الشريف الإدريسي”، وعلى رأسهم رئيسها رضا الضميري، وذلك إيمانا راسخا منهم بدور الفن والثقافة والبيداغوجية التعليمية في بناء الفرد الجمالي والمنخرط في إصلاح وتنمية مجتمعه، موفرة لذلك الموارد المتعددة واللوجيستيكية اللازمة لتفعيل هذا الانخراط وهذا البناء الجواني لشخصية الطفل. وعلى إثره تم تقديم مجموعة من الأعمال الفنية التأويلية التي أنتجها الطلبة-فنانو المستقبل- في فضاءات الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بالدار البيضاء، (من 3 إلى 10 يونيو الجاري).
فنانون في المدرسة
ولأنه لن تكتمل هذه العملية دون وجود فاعلين رئيسيين قادرين على الأخذ بأيادي هؤلاء الطلاب، وتوجيههم توجيها بيداغوجيا وإستتيقيا دقيقيْنِ، اختارت هذه المؤسسة التعليمة أساتذة -مؤطرين- فنانين لهم بصمات وتوجهات فنية مميزة، في ساحة الفن بالمغرب، مطورين أساليبهم الخاصة: عبد الصمد بوْيْسرامن (مندوب المعرض)، معاذ الحسناوي وزينب الورضي. مما يدفعنا إلى الحديث عن دور استقطاب المؤسسات التعليمية لفنانين، سواء كانوا مدرسين أو زوار، بغُية الانخراط في عملية التوجيه والتدريس، ومن أجل منح الأطفال -الشباب الحظ في عيش تجربة جمالية متفردة. وأيضا، لتمكين جميع الطلاب من امتلاك -عبر تجربة شخصية فنية- سلوكٍ جمالي وعيش تجربة إستتيقية أصيلة. مما يجعل هذه البادرة تحفيزا للشروع في فعاليات مشابهة، من شأنها تحسين جودة التعليم وبناء فرد جمالي.
وفي الواقع، يقع اصطلاح “فنانين في المدرسة” في مستويات ثلاثة، أولها كون المدرسين هم فنانون محترفون، وثانيا يتمثل في أولئك الفنانين الذين يتم المناداة عليهم من قبل المؤسسة لتقديم ورشات وتوجيهات للطلاب، وثالثا يتعلق بالطلاب الفنانين أنفسهم، بوصفهم “مُؤَوِّلين” و”مُنتجين” للأعمال الفنية، كما هو الحال في هذا المعرض. وتتجلى عملية التأويل من خلال فعل إعادة الإنتاج ذاك، الذي قاموا به، لمجموعة من منجزات فنانين مغاربة وعالميين مكرسين، لكن بطرقهم الخاصة، مازجين بين مختلف الممارسات والأساليب في صلب “منجزاتهم التأويلية”.. إذ نجد أثر مونش ضمن تصاوير الشعيبية والحسين طلال، وألوان الوحشيين في عوالم فان غوخ، ورموز بلكاهية في انفعالات باسكيا، وتأويلا عفويا لمنجز ليختنشتاين، وإدراجا لعلامات حميدي مع تكعيبات بيكاسو، واللعب الحر بالوجوه والألوان والأشكال (بينبين، شبعة، مليحي، ماتيس، موني، سيزان…)، وغيرها من التأويلات العفوية، تجاوزت 30 عملا فنيا، يمكن أن نصطلح عليها بمنجزات بارودية لكن لا تسعى إلى التهكم بقدر ما تسعى إلى قراءة تلك المنجزات بطرقة متداخلة، منتجة لوحات لا تقلد ولا تحاكي بل تؤوّل من جديد الآثار الفنية والعالم، من خلال “تجربة إستتيقية” مميزَّة لكل طالب على حدة. حيث إن هذه التجربة تعدّ مصدر كل فن، ودعامة أساسية لكل علاقة بالعالم، بوصفها طريقة للوجود فيه. وكما يرى ديوي فإن “الانتقال من التجربة (الخبرة) العادية Ordinaire إلى الإستتيقية هو رهان ديمقراطي حقيقي”، لا يمكن أن تقوم به سوى المؤسسات التعليمية في تعاملها مع الناشئة.
المخيلة وتأويل العالم
تقع الخبرة الإستتقية l’expérience esthétique، في قلب طريق الطفل-الشاب المفتوح على العالم في صفائه التام، والسالك إلى بناء الذات وتحصيل دراسي أعلى، مستندا إلى المخيلة الخلّاقة، التي يتم تكوينها بيداغوجيا عبر “قراءة العالم أولا، ومن ثم قراءة الكلمات”. وفي ظل عالم مشبع بالصور والكلمات، فالمعلومات والمعارف متاحة للجميع، ملقاة في الطرقات، مما يجعل التفوق مبنيا على امتلاك مخيلة واسعة، ونحتاج لذلك إشباعا فنيا وتروية عطش “فناني المستقبل” المتطلعين دائما لاكتشاف العالم والمجهول، حيث إننا اليوم في ظل كل هذا الاختناق الحاصل، في ضرورة قصوى إلى الفن بقدر ما نحتاج إلى الأوكسجين.
انطلق بالتالي، هؤلاء الطلبة-الفنانون من مخيلتهم لإعادة تأويل العالم من خلال تلك الأعمال الفنية التي تفاعلوا معها، كأننا أمام أعمال “فنية معاصرة” لأطفال -شباب، “يُسائل [الفنان فيها] الفن ويمارسه عبر أسلوبه الخاصة، ومن خلال طريقة يمكن بها لكل إنسان أن يعيش حياته”.. كما يخبرنا Daniel Sibony، عن المنجزات المعاصرة. ولأنه لكل شخص طريقته الخاصة في عيش حياته، فلكل أسلوبه الخاص: “الإنسان هو الأسلوب”؛ وقد جاءت هذه الأعمال الفنية بطرق مختلفة لا تتناسخ ولا تحكي بعضها بعضا، حرة ومتفردة.
وكم نحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه المبادرات الجمالية، التي أخذتها المؤسسة على عاتقها، الهادفة لتكوين أجيال المستقبل بوعي جمالي. ولعل هذا الحدث يصير دافعا لفعاليات مشابهة تتبناها مؤسسات داعمة للفن والثقافة وغيرها .
يلعب هذا المعرض، في نظرنا، محطة هامة حق الوقوف عندها، حيث تقدم لنا تجارب واعدة استطاعت أن تصنع رؤية تجاه العالم انطلاقا من تأويل أعمال فنية مغربية وعالمية.
(*)شاعر وباحث جمالي