«تاريخ التعب»: وما زال الإنسان يكتبه بجسده وروحه  باحث فرنسي يسبر هذا المفهوم منذ القرون الوسطى حتى كورونا

لطالما سعى الإنسان حثيثاً للتخلص من التعب وما يترتب عليه من شعور بالوهن واستنفاد القوى. غير أن مثل هذا السعي بات حلماً عزيز المنال في العصر الراهن، وقد تفاقم القلق إلى أبعاد غير مسبوقة وتحولنا من دون وعي منا، إلى حفنة من المتعبين، نحمل أجسادنا الخائرة أينما حللنا. هل أصبح الإنهاك علامة على العصر، أم أن الإنسان بحسب طبيعته المادية، خُلق في كبد؟
في كتابه «تاريخ التعب من القرون الوسطى حتى يومنا هذا» الصادر عن دار بوليتي 2023، ترجمة نانسي إيربر، يستكشف المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي جورج فيغاريلو تاريخ التعب على مدار عشرة قرون كاملة، باعتباره ظلاً للإنسان وشاهداً على محدوديته وشيخوخته وفنائه، وليس مجرد عرض لعصر بعينه، نتيجة لممارسات خاطئة. غير أن تلك الظاهرة شهدت تطوراً رهيباً من عصر إلى عصر، وتغيراً في منظومة القيم والعادات. بالتالي اختلفت مفاهيمها وتنوعت طرق وصفها وعلاجها بمرور الوقت، حتى أسفر القرنان العشرون والحادي والعشرون عما يشبه الصعود إلى حافة الهاوية، مع ازدياد وعي الإنسان بنفسه ورغبته العارمة في الاستقلال. فغزا التعب كل جوانب حياته، وراح يلاحقه من المنزل إلى العمل، ومن علاقاته بأقاربه وجيرانه إلى أصحابه وأهله، ليتغلغل في كل أيامه ولياليه ويسطو على أكثر لحظاته حميمية.

مخلوقات هدها التعب

تنطلق رحلة فيغاريلو من العصور الوسطى، ربما لأن هناك خريطة للجسد، وهو على صورته الريانة، غني بالسوائل والطاقات غير المحدودة. وتمحور هدف إنسان هذا العصر حول الحفاظ عليها ومحاولة منعها من التسرب أو التدفق بعيداً عن الجسم، خوفاً من التصلب والذبول لدرجة أن أصبح التعرق بالنسبة لهؤلاء المفعمين بالحياة، يشكل عرضاً خطيراً ويحتاج إلى الحد منه بطرق لم يتم استعراضها بشكل واضح في كتاب فيغاريلو. علماً أن الكتاب احتشد بفيض من القصص المثيرة في كافة المجالات؛ العسكرية والدينية والعلمية والتقنية من جميع أنحاء العالم. غير أن فرنسا مثلت بؤرة ارتكازه، وأمدته ببانوراما من الشخصيات المثيرة والمتعبة، منهم الدوك دو بيري الذي أصيب بنزيف في أنفه عام 1698 جراء ارتفاع درجة الحرارة بينما كان يطارد طائر الحجل. والسيد بيتي الغارق حتى أذنيه في مخاوفه الرهيبة، والخياطون الفرنسيون الذين كانوا يواصلون العمل «من أربع عشرة ساعة إلى ثماني عشرة ساعة في أكثر المواقف إيلاماً» عام 1833. أو المقاتلون في الحرب العالمية الأولى حين وجدوا أنفسهم على حافة الفراغ يلوكون بألسنتهم صنوف الرتابة والتعب، أو حتى الموظف في السوبرماركت، الذي أحس بألم رهيب بعد أن حمل عبوة ثقيلة من المياه المعبأة.
يبدأ فيغاريلو الاستشهاد بتحذير قسطنطين الأفريقي، طبيب القرن الحادي عشر: «عليك تجنب الأعباء الثقيلة والعزوف عنها لأن القلق المفرط يجفف أجسادنا، ويصفي طاقاتنا الحيوية، ويربي اليأس في أذهاننا ويمتص جوهر عظامنا». وتمتد الاستشهادات من الرواية والشعر والوثائق، معززة بنظريات علمية لقياس درجة الإنهاك وتقصي مختلف الأمراض الجسدية الناجمة عنه. في «أوقات صعبة» مثلاً، يجري ديكنز هذا الحوار بين أب وابنته: «أنا متعبة يا أبي. قالت لويزا: متعبة منذ وقت طويل. متعبة؟ مم؟ سأل الأب غير المصدق. لا أعرف، من كل شيء، على ما أعتقد».
وعلى خلاف لويز الشاكية، يذهب ليفين في «آنا كارنينا» إلى المروج ويقطع العشب مع الفلاحين لتخفيف كربه عن طريق هد قواه. يكتب تولستوي: «لم تكن ذراعاه هما اللتان تؤرجحان المنجل، لكن المنجل بدا وكأنه يجز من تلقاء نفسه… وكانت هذه هي أكثر اللحظات راحة».
«كائنات تشعر بالطمأنينة»
مثل هذه الوعود بالراحة احتلت مكاناً بارزاً في تاريخ التعب، ويؤكد المتصوفة مثلاً على مر العصور بأنهم وجدوا طريقاً يقودهم إلى راحة البال بعيداً من قلق الدنيا ومتاعبها. وعلى المنوال نفسه يستشهد فيغاريلو في قسم خاص بالتعب المريح في سفر أشعيا وإنجيل متى: «تعالوا إليّ أيها المتعبون وذوي الأحمال الثقيلة، وأنا أريحكم». ويفند مشاق رحلات الحج بين الجبال الوعرة وطقوس الكفارة كدليل على ذلك، «سواء كانوا حفاة أو منتعلين أحذية، عادة ما تكون مصنوعة من قطعة واحدة من الجلد». وهو ما جعل الطبيب الإيطالي ألدبراندين من سيينا في القرن الثالث عشر ينصح المسافرين بـ»تناول اللحوم الخفيفة فقط وشرب الماء العادي أو الماء الممزوج بالبصل أو الخل أو التفاح الحامض لتنقية مزاجهم، وبوضع بلورة في أفواههم لتهدئة عطشهم»، اعتقاداً منه في ذلك.
ولا يفوت فيغاريلو أن يصدر أحكاماً على كل شخوصه المستشهد بهم بل ويحثنا على اتباعها: «عليك أن تحترم الكونت دامبيير، الذي توفي عام 1305، لقد أدى مهامه على أكمل وجه وترك مبلغاً ضخماً قدره ثمانية آلاف جنيه استرليني لأي شخص يحج إلى الأرض المقدسة نيابة عنه». يعقب أنتوني لين في مراجعة للكتاب نشرتها صحيفة «النيويوركر»:»ارفض أو ازدرِ مثل هذه الوعود، إن شئت، لكن من الصعب أن تنكر وجودها في تاريخ التعب، تماماً كما تم إثراء تاريخ الفن من خلال الصور المتكررة ليسوع في بستان الجثسيماني، يحيط بتلاميذه النُعاس، فيسأل بطرس: «ألا تستطيع أن تسهر معي لساعة واحدة؟»… وسط كل الاضطرابات في العالم، تراهم يستسلمون للنوم».

سيزيف قد
يصيبه الملل

مع الثورة الصناعية وقسوة العمل في المصانع في القرن التاسع عشر، يستند فيغاريلو إلى كتاب من ثلاثة مجلدات عن الاقتصاد الصناعي صدر عام 1829، معرجاً على مميزات الماكينة التي قللت الحاجة إلى القوى البشرية، مما استدعى بالضرورة عمالة الأطفال لسرعتهم وضآلة حجمهم ورواتبهم حتى بات من المستحيل استبدالهم بالبالغين في مهام كثيرة من دون تكبد خسارة مالية كبيرة. هنا يبدي أنتوني لين دهشته من كتاب يسعى إلى سبر تاريخ التعب ولا يتضمن سوى إشارة واحدة فقط إلى السود الأمريكيين من أصل أفريقي، ناصحاً إياه بالاستشهاد بفريدريك دوغلاس على سبيل المثال، فهو من قال، إن الأشخاص المستعبدين «يجدون صعوبة أقل بسبب الحاجة إلى الأسرة، مقارنة بالحاجة إلى وقت للنوم».
في الفصلين «من الهرمونات إلى الإجهاد»، «من الاحتراق إلى الهوية»، نشهد التحول إلى أسطرة التعب من خلال نماذج مثل أليكسي ستاخانوف، العامل السوفياتي الذي استخرج أكثر من مئة طن من الفحم في دورية ليلية ولقب بـ»سيزيف الأحمر». وكذلك الجنود، من الحلفاء والألمان، الذين بتناولهم الفيتامينات ظلوا متيقظين أثناء الهجمات الشرسة. يقول فيغاريلو: «تخيل سيزيف منهكاً من التعب وقد عزف عن دحرجة صخرته؛ لتدرك حينذاك كم نحن قريبون منه. لطالما حلمت البشرية بالأفعال الأكثر مغالاة ومباهاة، مهما بلغ مقدار التعب».

فائض الخوف
في زمن اللايقين

لعل تاريخ التعب مدفوع بحقيقة إدراك البشر للسباق المجبولين عليه، كما تدعي الدراسة، بحيث يسعى كل جيل من المبتكرين إلى تجاوز اكتشافات الجيل السابق، كما يسعى البعض إلى تخطي أوضاعهم الخانقة أو الحفاظ على مناصبهم فحسب، ومع تسارع وتيرة التقدم، تحول الأمر إلى نوع من الركض الضاري، وطفق التعب ينسل من الخارج إلى الداخل متخذاً مساراً جوانياً. في فصل بعنوان «قائمة مفصلة بالضيق النفسي»، تظهر مفردات مثل التشرذم والعجز والسجن والكسل والملل والضجر واليأس والرغبة في الموت، وكأن الإنسان يختبر نوعاً جديداً من القلق ويصبح العقل المرهق أكثر مقاومة للشفاء من الجسم الذي يسكن فيه، فليس التعب الجسماني على حد قوله هو ما يطارد الذهن كما الحال سابقاً، بل التعب النفسي هو ما تمكن من الجسم «إلى حد تحطيمه».
يصل فيغاريلو في الربع الأخير من كتابه إلى محن عصرنا الحالي، فنتعرف إلى التعب باعتباره مزمناً، بعد أن تضخمت مخاوفنا واستحوذت التقنيات على انتباهنا وأبرزت الحداثة وما بعدها أنيابها، وغدت الحياة على الإنترنت غاية في الإرهاق، علاوة على ظهور الأمراض والأوبئة والهذيانات. ويكفي ما فعله «كوفيد 19» بالعالم وآثاره المدمرة التي ما زلنا نتجرع مرارتها سواء على مستوى من أصيبوا به أو هؤلاء الذين تكبدوا السهر على راحتهم، أو حتى الذين لم تصبهم الحمى، وجربوا تلك المعاناة الرهيبة من ترقب التعب، ولم يعد الخلود إلى النوم وسيلة للراحة، بعد أن تحول الحلم إلى ساحة قتال كانعكاس للواقع، وأرغم الحالم على المشاركة في المعركة بكل كيانه، ليستيقظ كل صباح مجهداً، يواصل الروتين اليومي بجسد خائر وروح مثبطة.

عن «الأندبندنت»


الكاتب : سناء عبد العزيز 

  

بتاريخ : 11/05/2023