بهضاب ومرتفعات إقليم تاونات، وكشأن كافة المسلمين بمختلف بقاع المعمور، تجلّ الساكنة في كل من المراكز الحضرية التي يضمها الإقليم والقرى الكثيرة المتناثرة عبر ترابه الشاسع، شهر رمضان الكريم إجلالا كبيرا وتعظّم من شأنه، وتستقبله بكل مظاهر السعادة والحبور حيث تتوزع التبريكات والتهاني بأطيب المتمنيات بين الأقارب والجيران والأصحاب إيذانا بحلوله.
تنتظم أيام رمضان بشكل مغاير عن المألوف بما يتماشى مع خصوصيات الصيام التي تفرض نفسها على إيقاع الحياة بتاونات، هذا الإقليم الفلاحي بامتياز، الذي تتطلب معظم الأشغال في ترابه جهدا عضليا كبيرا، إضافة إلى كونه إقليما حبيسا (غير ساحلي) بحيث تكثر أيامه الحارة التي تتخللها من حين لآخر رياح الشرݣي (رياح شرقية حارة وجافة قادمة من جنوب الصحراء )، وذلك بصرف النظر عن الفصول التي أضحت تتداخل مع بعضها البعض نتيجة التغير المناخي. لذا تضطر الناس؛ احتراما لحدود تحمل الأبدان؛ إلى التقليل من ساعات العمل واستعمال جدول زمني مغاير، حيث يعتمد الفلاحون العمل الصباحي المبكر قبل اشتداد الظهيرة، أو العمل ما بعد العصر بعد أن تخف وطأة الشمس قليلا إن اقتضت الضرورة ذلك. وعموما تنحو الناس في الغالب إلى التقليل من ساعات العمل وإن اعتدلت الأجواء وخفّت درجات الحرارة تعظيما للصيام ورفقا بحال الصائم، أما حين المطر فتكاد تنعدم الأشغال باستثناء ما لا غنى عنه ويرتبط بالروتين اليومي البسيط كجلب المياه أو التبضع ونحو ذلك.
قبل الإفطار
خلال رمضان، في تاونات كما في غيرها، يقبل الكثير من الأشخاص ومن مختلف الأعمار قبل الغروب على ممارسة رياضة كرة القدم، فتقام «الدوريات الرمضانية» التي يجتمع عليها المشاركون في «اللعبة» وغيرهم ممن تأتي بهم الفرجة بحثا عن الترفيه ولتمضية الساعات القليلة المتبقية على موعد الإفطار، وما يشجع على هذا الإقبال الذي يمتد لممارسة رياضة المشي والتجول وحتى التأمل، الطبيعة الخلابة التي حبا الله بها الإقليم، إذ تتعدد الوجهات بتنوع عناصره الطبيعية التي تتوزع ما بين التلال وقمم الجبال والغابات والسدود والأودية والشلالات. كما تعرف الساعات القليلة قُبيل الغروب خروج الناس للتبضع وجلب المياه من الآبار والعيون والسقايات التي تظل العصب المائي في الإقليم، وتكثر أيضا الحركة بُغية زيارة الأقارب والأحباب لمشاركتهم مائدة الإفطار، إذ يقوي شهر رمضان من أواصر الترابط الاجتماعي بشكل ملحوظ.
ليالي رمضان
إذا كانت أجواء أيام الصيام خلال شهر رمضان الأبرك في تاونات تتميز بـ «الطقوس» المختلفة التي أشرنا إلى بعض من ملامحها، فإن الليالي الرمضانية تتسيّدها أجواء العبادة والأنس، فَبُعَيْدَ أحاديث مائدة الإفطار ومشاهدات بعض البرامج الرمضانية برفقة الأحباب، تنطلق الأسر إلى المساجد لأداء صلاة التراويح في أجواء جماعية مهيبة مليئة بالإيمان والروحانية التي ترفع من درجات الخشوع وتبعث على الطمأنينة والسكينة في النفوس.
لحظات ربانية روحانية تطبع تلك المساحة الزمنية التي يرتبط فيها المصلون بخالقهم، ما أن تنتهي حتى ينتشر الناس بعدها لزيارة الأقارب والأصحاب أو للجلوس في المقاهي مع الأصدقاء حيث يحلو ويطول السمر. وإذا كان هذا البرنامج الليلي هو الذي يختاره البعض فإن البعض الآخر يعملون على تمضية بعض الوقت بالخارج، خصوصا بالمراكز الحضرية المهيئة للفسحة التي تضم تجهيزات وحدائق أو تعرف شوارعها رواجا تجاريا كبيرا، ولا تنتهي حركة الأقدام هذه إلا بتناول قسط من الراحة والنوم قبل النهوض للسحور ولصلاة الفجر، أو من أجل اغتنام المزيد من الوقت في قراءة القرآن وقيام الليل.
تحضيرات «مطبخية»
يعود الاهتمام الخاص بالمطبخ في شهر رمضان الكريم المعروف بالعبادة والورع إلى ما يمكن أن نسميه فرحة إتمام الصيام، تجسيدا للحديث الشريف «للصائم فرحتان .. فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه». لذا وقبل رؤية الشهر بمدة، تبدأ الحملة الرمضانية للتبضع من الأسواق والمحلات، التي تعرض بكثافة مختلف المنتوجات والبضائع التي يجمعها ارتباط وثيق بالشهر الفضيل، من قبيل التمور والتين المجفف «الشريحة» و حلوى «الشباكية» والمكسرات، وغير ذلك من المواد الأولية من منتجات مختلفة التي تبرع أيادي النسوة بتراب إقليم تاونات في تحويلها إلى ما لذ وطاب من الطعام. فـ «سيدنا رمضان» يمتلك مكانة خاصة وطقوسا معيّنة يتقاسمها الإقليم مع غيره في باقي مناطق المغرب، في إطار الهوية المشتركة وسيرورة «التثاقف» الطويلة، مع الأخذ بعين الاعتبار العادات والتقاليد التي يتفرّد بها الإقليم والتي استقام عليها منذ زمن كجزء من خصوصيته المجالية.
«الشريحة» والمائدة التاوناتية
لا تخل مائدة الإفطار التاوناتية من طبق «الحريرة» ذو الشعبية الكبيرة داخل مناطق المغرب قاطبة، إضافة إلى الحضور اللافت لـ «الشريحة» التي يعتبر الإقليم مصدرها الرئيسي بالمغرب، والتي تعتبر مصدر كسب وعيش بالنسبة للعديد من الأسر بهذا الإقليم، التي يرى الكثير من الناس أنها ليست بمنتوج غذائي فحسب بل دوائي كذلك، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعارها بسبب الإقبال الكبير عليها، وقِس على ذلك باقي أيقونات المائدة الرمضانية المغربية مثل «التمر» و»الشباكية». أما بالنسبة للعجائن فيتم إعداد عدة أشكال منها مثل «الرغايف» و»المسمن» و «البطبوط» و «الحرشة» و «البغرير»، التي تتزين بها معظم موائد الإفطار المغربية، مع وجود بعض الاختلافات في طريقة الإعداد وكذلك في التسميات من منطقة لأخرى. وكدأب المرأة المغربية أينما حلت وارتحلت، تجتمع النسوة بإقليم تاونات لإعداد كل «الشهيوات» الذي ذاع صيتها ولاقت انتشارا واسعا بالبلاد مثل «سلو» و»البريوات».
«إباون البيصارة» والسمك
رغم أن الإقليم غير ساحلي إلا أن للسمك شأن خاص في قلوب التاوناتيين، فهو يعدّ بمثابة تاج على «رأس المائدة»، خصوصا أيام الأسواق الأسبوعية التي تغطي كامل تراب الإقليم، فمن سابع المستحيلات أن يعود التاوناتي أدراجه من السوق من دون سمك اللهم إن لم يجد، ويزداد هذا الطابع تكريسا أيام رمضان إذ يرتفع معدل استهلاك السمك لتنوع استعمالاته وقتئذ. وإلى جانب السمك الذي يحنل مكانة مهمة فإن مطبخ رمضان بإقليم تاونات يتشبث؛ وبالأكثر في فصل الشتاء والأيام الباردة؛ بمعشوقته «البَيْصَر» المُخَلَّلَة بزيت الزيتون الذي ينتجه الإقليم بوفرة، فقصة العشق تلك فاقت شهرتها الآفاق بعد أن غدا الإقليم مضربا للمثل في استهلاكها، وتعود فصول هذا العشق لكون زراعة الفول أو «إباون» كما تشتهر تسميته في المنطقة، وكذلك الفاصولياء (الجلبانة) تعدّ في الأصل زراعات مجالية بامتياز ترسّخت هنالك أبا عن جد، علما بأن المطبخ التاوناتي يحتفظ خلال شهر رمضان بأطباق تاريخية ذات مكونات جد بسيطة مثل «التشيشة» المكونة من «البلبولة»، إضافة إلى أكلة «التريد» بمعناه التقليدي في إقليم تاونات المعروف بـ «الرفيسة العَمْيَة»، التي تتشكل من مرق الدجاج الممزوج ببعض التوابل والمضاف إلى الخبز اليابس.
«الوزيعة»
تفاصيل حياتية تميز المجتمع التاوناتي، التي قد تتكرر فصولها في مناطق أخرى من تراب المملكة، في حين يبقى البعض منها خاصة مميزة لهذه المنطقة وسكانها خلال الشهر الفضيل، ومنها ما يتعلق بطقس «الوزيعة» الذي يميز بعض المناطق في إقليم تاونات، التي تعتبر تجسيدا حَرفيا لروح الجماعة والتكافل الذي يطبع نمط حياة الساكنة، فخلال ليلة النصف من رمضان يجتمع أهل القرى على توزيع «الذبيحة» التي يتم شراؤها بالاشتراك «الفريضة» (التي غالبا ما تكون عجلا أو أكثر من خروف) فيما بينهم في أجواء احتفالية جماعية. وتعتبر «الوزيعة» تقليدا أمازيغيا في الأصل، تعود جذوره في المنطقة إلى ما قبل الإسلام حيث كان يقام في المناسبات والأعياد، وتزاحم فيه بعض مناطق إقليم تاونات المتعربة قبائل أمازيغية صرفة احتفظت به هي الأخرى. ومن السائد في الإقليم أيضا خلال هذه الليلة تحضير الكسكس أو ذبح «الفروج» أو «بيبي» في أجواء عائلية كما هو متداول عند العديد من العائلات في مختلف ربوع المغرب العزيز.
صحافي متدرب