– ب – التماس المعنى :
استوقفتني ملاحظة عجيبة وغريبة حين وجدت نفسي وأنا أقارن بعد القراءة الكاشفة والمتفاعلة بين قصيدتين من ديوانين متباعدين في الزمن، ولكنهما متقاربان في المدلول الإبداعي المتكامل الذي يدل على تجربة واحدة أصيلة ومتأصلة وإن اختلفت الدوافع المتحكمة فيهما (شمس الما) أو (بِرية ف كم الريح)، وكذلك الظروف الناشئة في وسطهما، هذا تأكيد مرة أخرى على ما قلته، وسأكرره كلما تصادفت مع المدلول الذي يذكرني به .
ومن سلبيات ذلك التذكار الفادحة في إبداع اليوم أنك تجد خللا واضحا داخل الـديوان الواحد، وداخل القصيدة المتفردة ، ومع ذلك يَدَّعُون الإبداع، ويتناسون أسسه وشروطه الواجبة وعلى رأسها أن يكون النفَس المتحكم والمنتشر واحدا كما نرى عند شاعرنا في العلاقة العميقة التي تجمع ما بين الـديوانين: “شمس الما”و”برية ف كُم الريح”وكما قلت فهما متباعدان من ناحية الزمن والظروف الكامنة وراء كل واحد منهما .
فهذا العنوان أوقفني على تطابق غريب وجميل بين قصيدتين هما: “ريوس المعنى”الواردة في الديوان الأول، و”حتى يواتيني راسي ” الواردة في الديوان الثاني. فالبحث عن المعنى، والتماسُه تـَــــمَّ من خلال الذات وما تحويه من أعضاء، ومفاهيم ، وتصورات صيغت بحبكة إنسان عارف، ويملك عبقرية في الإدراك والتحديد والدمج والتواصل، يقول من قصيدة بعنوان: “حتى يواتيني راسي ” .
جلست على جلايل
لعمر الحايل
قهوة ب لون أيامي
وكاس ما صافي
ك صداع سكاتي
ف الراس سهو
ضاع فيه عنادي
اقدامي نبتو ف الطين
كان ضاحك هذه سنين
قبل ما تغطيه الحضارة…..” 6 ” .
وهناك مثال ثان، جميل جدا نجده في قصيدة: “ريوس المعنى” وفيها أطلق الشاعر عِنان ناصيته الإبداعية، وجال مع المعنى في أزيد من واحد وعشرين رأسا هي: راس الدرب – راس الحانوت – راس السوق – راس العام – راس الجبل – راس الخيط – راس العين – راس لمحاين– راس الما – راس الحربة – راس الحمـــق – راس المال – راس الجمل ” ٍراس الجَمَّالة – راس الشهر – راس الحية – راس الكدية – راس الضنك – راس ليتيم – راس لغرايب – راس الساعة – راس بنادم ، وسأثبت منها ما قاله في راس الساعة المكون من أربعـة رؤوس هي :
الرأس الأول :
على راس كل ساعة
كنحقق كانتي
حتى إيلا فات الفوت
ما يكون لعمر فاتني .
الرأس الثاني :
حققت الكلسة على سهرة وربع
بدا الكاس يدور ومعاه الصرف
ملي راس الوقت غنى وشبع
كان رقاص الدقيقة طايح له لكتف .
الراس الثالث :
حقق الجلسة على سهرة وربع
وعطاها ل النشاط
ملي ضربتو الفيقة كان صباح قل ربع
وراس الوقت عاطي منو الشياط
الراس الرابع :
على راس كل ساعة
ك نحزم للوقت راسو
خايف يقني لي مصيدة
ونحصل في باسو……..” 7 ” .
2 – ج – النظائر العقلية والتقابلات المسعفة على بيان المعنى المراد : ويلجأ الشاعر إليها عندما يريد أن يقتحم مواقع الذات المظلمة بشيء من التفلسف العقلي المؤدي إلى الكشف عن مواقف الشاعر الخاصة اتجاه أحداث الحياة بصفة عامة، المبدعون الأصلاء يــتـحـولـون بذلك إلى أنبياء بالمفهوم الإبــداعي والإنساني في وسط البشرية جمعاء، وما الحياة في حقيقتها إلا ضرب من التأمل في المجريات الوجودية المتتالية ، وهذا نوع من الواجب الملقى على عاتق المبدع، فلا يكفي أن يكون بارزا في ناحية لـــكــي يظفر بوصف الإبداع ، وإنما عليه أن ينهض بكل مسؤولياته وأدواره الحياتية انطلاقا من ذاته ، ومرورا بعوالمه المختلفة ، وانتهاء بالواجب الإنساني العام المتمثل في التأمل والتفلسف الإيجابي والمفهوم على كافة مستوياته، ومن لم يقم بكل هذه المهمات فليس بمبدع ، وينبغي علينا نحن القراء والنقاد أن نعلنها في الناس ، وفي الجمهور المبدع خاصة لنحمي أنفسنا وساحتنا الإبداعية من كل تطفل واقتحام عشوائي ومضر، ولنا في ما كتبه الشاعر بلبالي الدليل الأوفى على كل ما قـلـناه ، يقـول من قــصيـدة بعنوان : ” شكون فيق سكاتي ”
من جهلي بديت
فكرت وشكيت
غرقت ف تسوالي
حكمت لعقل
وغلبني إحساسي
باش نعرفك أكثر
تبعت القلب
اللي جرني ليك
خليت رجلي
تتبع أثر العفطات
تحس شوقها ليك انت ب الذات
خليت يدي تغزل ب الكي
من الصهد اللي فاق
والكبدة تعرف علاش النار حارة ك لفراق…..” 8 ” .
ومن قصيدة بعنوان : ” تبركيك الهدهد ” يقول :
من ضحكة ذيك لعشية
ركبتني دهشة
دخلت غابتك
حتى غابت
ف ادغالك اشواقي
بغيت نعبر صبري
تبعت فيك احماقي
سرقني ظلك
وظليت فيه
بغيت نرسي
ف بحر عينيك
كانت امواجه جاهلة
بلا كياد….” 8 ”
2 – د – الأساليب والتدويرات اللغوية المستعملة : للشاعر بلبالي صداقة قوية مع بعض الأساليب ، وفي مقدمتها استعمال حروف الجر ، وأسلوب الإضافة بغزارة لافتة للانتباه، وعلى امتــداد قصائدالديوانين المذكورين .
كلمات شاعرنا هي كلمات قصيرة من جهة العدد ، فأسلوبه يشبه أثر الومضة السريعة في وسط الظلام الحالك، ولهذا تدفعه معانيه الكثيرة ، وصِيَغُه القصر والاقتصاد على مستوى الكلمات إلى الاعتماد على حروف الجر وأسلوب الإضافة، والإكثار منهما لكي ينعم بعذوبة الانتقالات المتتابعة بسلاسة، ولكي يساير عقله الطامح إلى الإحاطة بالمعاني المرادة، وإدراجها أمام القارئ في هيئة قشيبة وجميلة ، وهذه مهمة جديدة تكشف عن معنى المبدع ، فاللغة شيء مشترك ولو كان الحَذقُ بها يُخَوِّل لكل متبحر فيها أن يصبح من المبدعين لكان اللغويون وغيرهم على رأس هرم الإبداع ، علينا أن نعرف أن الأمر أكبر من ذلك ، وأشد على الإنسان المبدع ، فأن تصبح لك لغة خاصة وأسلوب يمتح من هُويتك الوجودية فهذا لا يَتأتَّى إلا للمجدين من العباقرة المميزين في كل شيء ، ولا سيما في تحقيق ذلك على صعيد المشترك من الأشياء ، ولن أكون مدعيا حين أٌنَصِّب الشاعر بلبالي ضمن قائمة المبدعين الزجالين في هذه الخاصية ، ولدي الكثير من الأدلة على ما زعمت ، يكفي أن نعرف أن خصوصية القـصيـدة الـزجلية في مجال الأسلوب لا تكون ذاتية، أو مصطنعة في أكثرية الزجل المغربي، وإنما تنطبع بأثر البيئات الحاضنات للقصيدة الزجلية، وهو تميز عام يرجع إلى الاختلاف القائم بين المناطق المغربية المخــتــلفة، ولطالما رحَّبتُ به ، ودعوت إلى المحافظة عليه في مسلكه العام لعلنا نُبقِي على سِمَة التميز والتفرد بين الزجالين ذكورا وإناثا، أما إذا وجدتَ الأسلوب ينبثق من الذات ومن وحيها ، وكيفية ترويضها لللغة حتى أضحت خاصية ملتصقة بها فذلك هو الفتح الأكبر، وأعز ما يُطلب من لدن كل المبدعين ، وكل قارئ أو ناقـــد يتمنى أن يعثر على الخاصية المذكورة في كل مشاريع الإبـداع لسبب وهــــو أنها ستسهل عليه عملية التحصيل والإدراك والتبويب، ومع الأسف فتلك الأمنية لا تتوفر إلا في القلة الـــقــلـيلـة من الإبداع المعاصر ، ومن حسن حظنا أن شاعـــرنا بلبالي يـــعـد واحدا من تلك القلة، يقول في قصيدة “عهدي عليك “:
وجرجرني ف لوطا
على احجاره
سرحني
جرحني
وخرجني من السر
المَأمنَه عليه
وبقيت أنا
عند العاهد
ما قطعت اياس…..” 9 ” .
ويقول من قصيدة أخرى بعنوان : ” غمزة من رموس الما ” :
انا اللي ساف سفينتي
ترسى ف مرساك
تفرق ما ف قلبها من هواك
على جيل يساين وفاق ثاني
على جهد
هزيته عياني
حطيته اداني
غرسني فرحة ف انشادي
رجع الروح ف اللوح
ب اللي ف الخاطر حال
بدا يبوح
حتى نبت خلفه
ف الجذر الباقي
من شجرة احلامي ” 10″ .
معطى التدوير اللغوي عن طريق أسلوب الجر والإضافة واضح من جهة اللفظ ، ومن جهة المعنى، إذ لا يستعصي على القارئ أن يلاحظ ذلك على طول الأبيات وما تسعى إليه من ناحية بناء المضامــيـن المقصودة، وهي ملاحظة تستوقفك في كل خاصية مررنا بها ، وهذه ميزة عظمى عند الزجال بلبالي، تضاف إلى كيفية توليد المعاني وتأطيرها فكرا وفنا واختلافا متجددا في كل قصيدة وديوان ، ومع كل تجربة زجلية ، مما يعني أن المسار الإبداعي لشاعـــرنا كله عبارة عن فــتوحات وفـيـوضات وإضافات ، يتحكم فيها التفاعل والتكامل والتجريب والتطوير، والتأسيس لمراحل مستحدثة على دروب القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة، وتستحق مني وصف التفرد الحاصل في كل جوانب الإبداع ، وما أحوجنا إلى مثل هذه التجارب الناضجة والمستقلة عن كل شَبَه مماثل على ما أعرف، وما اطلعت عليه لحد الآن من روافد متعددة ومتنوعة لقصيدة الزجل المذكورة .
ولا أبيح سرا إذا قلت بأن جولتي مع إبداع الشاعر بلبالي كانت مضنية، وأحسست معها بالتعب الفكري المفيد والمجدي، وبالثراء الفني الذي يغريك وينسيك فيما كابدَته وشَقيت من أجله، وكما تكون عملية الإبداع ثقيلة وموجعة على المبدع فكذلك ينبغي أن يمر على القارئ والناقد تضامنا مع المبدع، وتبادلا للأحاسيس المشتركة، ويعد ذلك من روابط الإبداع القوية والمباشرة ، ومن الدلالات الضرورية في كل إبداع حقيقي ، يستحق اسمه ومنزلته لدى القراء ، وعند الناس .
عشت الوضعية ذاتها مع كل تجليات الديوانين: “شمس الما ” و ” برية ف كف الريح ” وظواهرهما الفكرية والفنية المختلفة، وهذا يحسب فقط للمبدع الرزين الأصيل، ويجب على أي مبـدع ناشئ أن يقتدي بمن سبقه حتى يشتد عوده وتكبر موهبته، ويصبح على ما عـلـيه مسار شاعـرنا الإبداعي ومشروعه الفكري والفني المرموق والمتفرد في رؤاه وفي أبعاده الثقافية والحضارية الدَّسِمة مقارنة بما يجري على ساحة الإبداع الزجلي المغربي بصفة عامة .
الهوامش
1 – ديوان برية ف كم الريح : 21 – الطبعة الأولى 2016م .
2 – ديوان شمس الما : 72 – الطبعة الأولى 2011م .
3 – انظر فحوى القصائد المذكورة في الديوانين المذكورين .
4 – ديوان برية ف كف الريح : 15 .
5 – ديوان شمس الما : 63 .
6 – ديوان برية ف كف الريح : 57 .
7 – ديوان شمس الما : 7 – 18 .
8 – ديوان برية ف كف الريح : 77 – 87 – 88 .
9 – ديوان شمس الما : 74 .
10 – ديوان برية فكف الريح : 25 – 26 .
مراكش في : 9 ربيع الثاني 1445 هجرية موافق 25 أكتوبر 2023م .
* أستاذ جامعي – مراكش