تأتي هذه التجربة الجديدة لتبصم على مسار، أخذ عقودا من عمر فنان ناضج ، يناهز السبعين من عمره ، يعشق التغيير، ويرفض ان يبقى رهينا للنمطية والابتذال ، و لذلك تتجدد اعماله و لاتموت ، حيث تنبعث من رحم الألوان ، كذلك الطائر الأسطوري الذي ينتفض من رماده، وتخرج من أعماق معالم لايطالها النسيان ، بفضل لمسة الفنان عبد الحفيظ مديوني الذي يأبى إلا أن يرسخها في الأذهان ، بأسلوب يتضارب بين الواقعية والسريالية ، معتمدا في ذلك على أدوات يستعملها الطبوغرافي إلى جانب الفرشاة لصنع مجسمات عبارة عن أشكال هندسية، تستمد بعدها الفني والجمالي من القلاع، والقباب و الأقواس والدوائر التي تبعث على الهوية ، وتعزز لمسة الحرفي المحلي وخاصيته ، سيما وأنه راهن على استحضار التراث المغربي وهو ينسج خطوطا هندسية متوازية و منحنية و متداخلة ، تستلهم خصائصها من الحضارة العربية الإسلامية وروحها.
غياب الشخوص في لوحاته ليس مطلقا ، فالظلال حاضرة لتملأ الفراغ وتعوض التواجد الفعلي.فلا وجود لمن لاظل له ، مما يبعث الروح في تلك الاماكن التي تنطق بصمتها من خلال ألوان تم صنعها بالمزج ، مستحضرا التراث المغربي الأصيل بوصفه جسرا تشكيليا ، ينطلق من الجذور المغربية ويلتقي في أبعاده التاريخية والفنية مع الحضارات المختلفة ، وينبني أساسا على نماذج مختلفة من فن المعمار العربي الإسلامي الاندلسي لما له من تاثير على الوجدان و عاطفة الإنسان ومفاهيمه الجمالية…
ونحن نقف أمام اعماله ، نشعر بنية الفنان وهو يدرج الخداع البصري عن طريق المحاكاة ، و ذلك بصياغة لاتُبقي على ملامح البنايات ، وتجعل اللون مستقلا بذاته، قريبا إلى التجريد ، يمثل الكثافة و الفوضى ، مما يصنع زوايا متعددة للنظر وكأننا امام أعمال جاءت بطريقة فيها شيئ من التكعيبة ، لتمنح البعد الثلاثي لمجسمات تأخذ شكل منشآت ، توحي هندستها المعمارية بانتمائها إلى المدن المغربية العتيقة، حيث تضيق الممرات الفاصلة بينها إلى حدود الاختفاء ، وتقترب الدور من بعضها إلى درجة التلاحم والانصهار ، للدلالة على الارتباط المتين ، كما تتعدد الأقواس لجماليتها ، وبعدها الروحي الممتد في الزمكان ، والذي ألهم توظيف تقنية التشحيب التي تجعل تلك المعالم تبدو وكأنها تعرضت لنوع من التآكل بفعل التقادم ، مما يعمق الشعور بالحنين لدى المشاهد.
تتشابك المكعبات والدوائر في أعمال أخرى لتشي بانعزالية إنسان هذا العصر الذي يعانى من الشعور بالخوف نتيجة إحساسه بالوحدة ، وتعكس تصور الفنان ونظرته لعالم مفعم بالتناقضات وتجسد تفاعله الحسي مع الكون الذي يصبح متاهة بصرية يروض الحالات النفسية من ناحية الاستيعاب والفهم ، وفي كل زاوية يبث موجات لونية غير صاخبة تتأرجح بين الإضاءة والعتمة على إيقاع سيمفونية بصرية ، يتم استشعارها من خلال عمران عائم في عتمة أزرق غامق، وفي ظل قساوة هذا اللون البارد ، تجد الذات نفسها وهي تتذوق مرارة القتامة ، وغياب معنى للوجود ، ولكن يحضر لون أصفر مشع ، يضفي البهجة ، و يقلل من اثر هذا الانطباع ، و يبصم على تجربة فنان مشاكس، لا ينظر إلى الحياة بنظرة سوداوية ، وذلك ما تفصح عنه أعماله التي تستقي بعض مفرداتها من الركح ، سيما وأنه يوازي بين التشكيل والمسرح ، ولذلك يغيب الفراغ في حياة هذا الروائي ، فهو ينكب على الكتابة في النهار، ويفضل أن يرسم في الليل ، مما يفسر طغيان أصفر قوي فيه شيء من ضياء القمر ، غالبا مايرخي سدوله على الاشكال المختلفة ولاينصهر بتاتا في الألوان الثانوية الأخرى ليطبع العمل بجمالية ويمنحه عمقا.
يظهر أن الريشة تحركت في لحظة إبداع بسرعة فائقة ، وكأنها كانت تتسابق مع الزمن وهي بين أنامل آمنة، حتى تمكنت من استعادة ما لم يكن ممكنا استرجاعه لو فات الأوان ، الأمر الذي يظهر مهارة الأستاذ عبد الحفيظ في ضخ الصباغة بحس وتقنيات فنية تشكيلية جديدة كي يعبر عن تصوره الفني و هو يرسم معالم مختلفة، تأخذ ملامحها من الأشكال الهندسية التي تصبح رموزا ، لبث القيم الإنسانية والفنية وبعث روح العصر في الشكل العام لتجربته التشكيلية.
إن الأستاذ عبد الحفيظ مديوني يأبى إلا أن يساير عصر الذكاء الاصطناعي من خلال تجربة تتسم بنكهة خاصة ، يلتقي فيها الجمال الفني بدقة علوم الرياضيات ، وقد تم وضعها في إطار يولي أهمية قسوى للزاوية المستقيمة التي تناسب حجم لوحات تاتي غالبا بمقياس 45/60 ، تمت هندستها على خط البصر ، اعتمادا على الخطوط المتقاطعة لإنشاء تركيبات بصرية مذهلة ، تخاطب العقل و تصل إلى الوجدان بفعل ما تحقق من تناغم وانسجام وما تخلقه من تأثير بصري يثير الدهشة والفضول.