لكل منا خطواته الخاصة في مساره التعليمي، وأحيانا هذه الخطوات تتعثر، وربما تتوقف لسنوات، لذلك تمثل العودة إلى التعليم فرصة ذهبية لتعويض ما فات وتحقيق الأهداف الشخصية و لما لا المهنية أيضا، فالرجوع إلى كرسي الدراسة يعتبر خطوة مهمة تتطلب العزيمة والإرادة والتخطيط الجيد، سواء كان ذلك من أجل استكمال المسار التعليمي بعد انقطاع لسبب من الأسباب، أو لاكتساب مهارات علمية جديدة، أو لتطوير المسار المهني، أو حتى لتحقيق الحلم ما، وليس لمجرد الحصول على شهادة أو استئناف للدراسة فقط، وبالتالي فهذه الخطوة تعتبر فرصة ثانية من أجل خوض غمار رحلة نحو التطوير الذاتي والمهني.
لمياء الرايسي
كثيرون ممن يطمحون للعودة إلى مقاعد الدراسة بدوافع وأسباب مختلفة، يكون عليهم مواجهة العديد من التحديات والاصطدام بالواقع، الذي قد يضع أمام صاحب هذه الرغبة إكراهات وعراقيل متعددة، قد لا يجعل من معانقة الكتب مرة أخرى أمرا سهلا، ومن أبرزها كيفية الرجوع أو كيف يمكن التوفيق بين الدراسة والحياة اليومية والمهنية، والتأقلم، ومواكبة طرق التدريس الحديثة؟
ولتسليط الضوء على هذه الرغبة التي قد تكون جامحة عند البعض، في مرحلة من مراحل العمر، قررت «الاتحاد الاشتراكي» نقل مجموعة من التجارب، التي اختلفت فيها الدوافع وتعددت بشأنها الإكراهات.
عودة مشروطة
« ح . ل « من الدار البيضاء، شاب يبلغ من العمر 35 سنة، كان حلمه منذ الصغر هو الالتحاق بالمعهد الملكي للشرطة، مما دفعه للسعي وراء تحقيقه والبدء من جديد. يقول « ح « وهو يجيب عن أسئلة الجريدة، «رغم شعوري بالحسرة لمغادرتي مقاعد الدراسة في وقت مبكر بسبب قلة النضج وعدم إدراك الطريق الصحيح، إلا أنني اتخذت يوما ما قرار العودة إلى الدراسة بعد انقطاع دام 15 سنة»، مضيفا «كانت أول خطوة لي هي البحث عن نقطة انطلاقة جديدة، خاصة وأنني كنت دائما أواجه عائق شهادة البكالوريا عند التقدم لأي وظيفة، مما دفعني لخوض تجربة الحصول عليها».
هذا السعي، أكد « ح» بأنه انطلق بخطوة إجراء امتحان السنة الثالثة إعدادي أحرار، الذي كان من أصعب المراحل بسبب قلة المعلومات وغياب التوجيه، بالإضافة إلى عدم توفر مؤسسات تستقبل المستمعين الراغبين في استئناف الدراسة، مبرزا بأنه خلال هذه الفترة واجه التنمر من البعض بسبب عمره، وهو الأمر الذي يعاني منه الكثيرون ممن يرغبون في العودة إلى التمدرس، مضيفا بالقول «لكن عزيمتي كانت أقوى من كل هذه التحديات، وبعد جهد كبير تمكنت من اجتياز شهادة الثالثة إعدادي بنجاح، رغم الصعوبات في التأقلم من جديد مع الدراسة وكمية المعلومات التي كان عليّ استيعابها».
هذه الخطوة دفعت محدثنا للانتقال حسب وصفه للمرحلة الثانية نحو تحقيق حلمه من أجل الحصول على شهادة البكالوريا، وهنا يقول مرة أخرى «اصطدمت بضرورة الانتظار لمدة سنتين لاجتياز الامتحان، وهو ما اعتبرته قرارا غير منصف، ومع ذلك انتظرت وخضت الامتحان، وتمكنت من الحصول على الشهادة في شعبة العلوم».
حين يغلق العمر الآفاق
بعد حصول « ح « على شهادة الباكلوريا بات حلمه بالنسبة له قريبا من التحقق، مؤكدا في تصريحه للجريدة بأنه عانق مقاعد الجامعة بكل شغف، معتبرا أن هذه المرحلة الجديدة كانت من أهم محطات حياته التي عاشها، حيث استفاد من التكوين الأكاديمي وحصل على شهادة الإجازة. تتويج جامعي، كان يعتقد المعني بالأمر بأنه سيفتح له باب الولوج إلى المعهد الملكي للشرطة، لكنه صُدم بإكراه آخر وهو المتعلق بعامل السن، مشيرا إلى أنه تبين له بأنه «قد فات الأوان بسبب قرارات التوقف الإلزامي بين كل مرحلة، مما أضاع مني فرصة تحقيق حلمي».
طوال كل هذه المدة، وبعد عودته للدراسة وتحقيق حلم حصوله على الشواهد المختلفة، وعلى رأسها الباكلوريا والإجازة، ظلت الأسئلة تتردد في ذهن « ح « دون إجابة، مؤكدا في تصريحه للجريدة بالقول «لماذا يجب الانتظار سنتين بين كل مرحلة؟ لماذا هذا القرار مفروض على الجميع؟ لماذا لا يُؤخذ عامل السن بعين الاعتبار في بعض الحالات»؟ أسئلة لم تجعل محدثنا يستسلم رغم تعبيره عن حزنه لذلك، مشددا على أنه اليوم يواصل مسيرته العلمية في سلك الماستر، ويسعى في المستقبل لخوض غمار الدكتوراه، مختتما اللقاء به بالقول «أدركت أنه لا شيء مستحيل، فبالإرادة والعزيمة يمكن تحقيق كل الطموحات، ولا أنسى فضل الدعم العائلي والأصدقاء الذين كانوا جزءً من رحلتي، ولكل منا روايته في الكفاح والتحدي».
من الإعدادي إلى الثانوي فالجامعة
بدورها ( و.ر )، وهي شابة من مدينة الدار البيضاء تبلغ من العمر 34 سنة، قررت أن تتفاعل معنا بكل تلقائية وأن تفتح لنا قلبها لتتحدث بدورها عن تجربتها، فحكت لنا عن نقطة تحول مهمة في حياتها، المتعلقة بإحساسها الدائم بالنقص الذي كان دافعا للعودة إلى الدراسة.
تقول « و «، مخاطبة الجريدة «لطالما رغبت في متابعة تعليمي والحصول على شهادات، لكن فكرة مرور الوقت وصعوبة الالتحاق بعد سنوات من الانقطاع كانت تعيقني»، مضيفة «التقيت بشخصية ملهمة شجعتني وساعدتني على اتخاذ الخطوة الأولى، فقمت بجمع الوثائق والتسجيل لاجتياز مستوى الثالثة إعدادي أحرار، لكنني لم أوفق بسبب الانقطاع الطويل الذي يصل إلى 13 سنة، مع نقص الدعم والخبرة، لكن رغم ذلك لم أستسلم وأعدت المحاولة ونجحت».
تحدثت « و « بعد ذلك عن لحظة تعتبرها مفصلية من حياتها تتعلق باللقاء مع أصدقاء يشاركونها نفس الحلم، مؤكدة على أنهم قرروا جميعا خوض تجربة اجتياز «البكالوريا أحرار» في شعبة العلوم الفيزيائية، رغم توقف دام سنتين بين مرحلتي «الإعدادي والثانوي»، مشيرة إلى أنها خلال تلك المدة استثمرت الوقت في اكتساب مهارات جديدة، مثل تعلم اللغات، مما ساعدها في تحقيق هدفها، مشيرة إلى أنها بعد نجاحها في البكالوريا التحقت بالجامعة، وحصلت على شهادة جامعية، وهي حاليا تتابع دراستها في سلك الماستر، مع طموح لاستكمال مشوارها هي الأخرى نحو الدكتوراه، لأنها ترى اليوم بأنها حلمها أصبح حقيقة.
الدعم من أجل النجاح
تؤكد « و « للجريدة وهي تبتسم معبرة عن سعادتها قائلة «لم يكن هذا النجاح ليتم دون الدعم العائلي وتحفيز الأصدقاء والأساتذة الذين كان لهم دور أساسي في تشجيعي»، مشددة على أن الرغبة يمكن أن تراود الإنسان في مرحلة ما من مراحل عمره، لكنها تظل لوحدها غير كافية إذا لم تجد البيئة التي تحتضنها وترعاها وتدعمها، فتوفر لها السند، الذي قد يكون معنويا فقط، لكي يضع الراغب في العودة إلى الدراسة قدمه الأولى في هذا الطريق، لأن تلك الخطوة تكون هي أصعب مرحلة في مسار شائك وليس بالهيّن لمعانقة التعليم الرسمي من جديد.
أهداف متعددة وغاية واحدة
تتعدد الأهداف التي تكون دافعا لاتخاذ هذا الشخص أو ذاك لقرار العودة للدراسة، ومنها ما يتعلق بحالة « خ .ع «، وهو متزوج وأب لثلاثة أطفال، يبلغ من العمر 42 سنة، الذي قرر العودة إلى الدراسة بعد انقطاع دام 15 سنة بسبب حاجته لشهادة تساعده في تقدمه المهني. يحكي « خ « للجريدة خلال اللقاء به، كيف أنه واجه تحديات عديدة، مثل صعوبة الاندماج، والقدرة على تعلم لغات جديدة، بالإضافة إلى مشكل كبير يتعلق بالتوفيق بين الدراسة والعمل والحياة الأسرية، لكنه أكد على أنه نجح بفضل الإصرار ودعم عائلته، خاصة زوجته.
أبرز « خ « خلال الجلسة التي جمعتنا به كيف أنه اتبع نهجا تدريجيا في التعلم، مما ساعده على اجتياز امتحان البكالوريا والحصول على الشهادة، معتمدا في رحلته على الاجتهاد والتخطيط، حيث كان يأخذ فترات توقف بين المراحل للاستعداد جيد، مشددا على أنه رغم التعب والتنقل المستمر، إلا أن الإرادة والتمسك بالفرصة الثانية كانا بالنسبة له يصنعان المستحيل، مما جعله اليوم ينصح أي شخص يفكر في العودة للدراسة بأن يبدأ فورا، وأن يحدد أهدافه، ويثق بنفسه، ويواصل المحاولة دون استسلام، لأن رحلة التعليم بالنسبة له تستحق العناء، فهي لا تخلو من مصاعب لكنها رحلة مثمرة في نهاية المطاف.
صدمة الفصل وفرحة التتويج لاحقا
بدوره « ي ف «، وهو شاب عازب يبلغ العمر 26 سنة، تعتبر قصته من بين النماذج التي قررنا نقلها لقراء الجريدة، فهو أصغر من التقيناهم سنا، وكانت عودته للدراسة مقارنة بالحالات التي سقناها سريعة، فقد قرر العودة إلى المدرسة بحثا عن مستقبل أفضل ولتحقيق حلم الحصول على شهادة البكالوريا، خاصة وأن انقطاعه عن الدراسة كان نتيجة إعادة نفس القسم مرتين دون نجاح، مما أدى إلى فصله وهو ما شكل صدمة كبيرة له لم تمح السنوات المتعاقبة آثارها.
يحكي « ي « للجريدة بكل تلقائية كيف أنه حاول الالتحاق بتكوين مهني لكنه لم يجد نفسه فيه، إذ أنه يفضل العمل العقلي على الجهد البدني لاحقا، وبالتالي قرر تغيير مسار حياته بالتسجيل لاجتياز امتحان شهادة الثالثة إعدادي أحرار، لكنه لم ينجح في المحاولة الأولى، فعاود الكرّة، وهذه المرة في المحاولة الثانية، تلقى توجيها من صديقه الذي ساعده في الاستعداد والمراجعة، مستفيدا من توفر المصادر التعليمية الحديثة عبر الإنترنت.
يقول « ي « أنه انتظر بعد ذلك سنتين لاجتياز شهادة البكالوريا أحرار، وهي فترة كانت صعبة بالنسبة له بفعل طول زمنها لكنها كانت مع ذلك مفيدة، وتطلب الأمر مجهودا مضاعفا للتحضير لعشر مواد دفعة واحدة. شدد « ي « على أن حصوله على شهادة الثالثة إعدادي كانت أصعب مرحلة في رحلته التعليمية، لكنها كانت المفتاح لتحقيق نجاحه لاحقا، فقد حصل على شهادة البكالوريا بميزة حسن، وواصل تعليمه الجامعي، وهو الآن في مرحلة الماستر، وهو الآخر يتوق لمعانقة شهادة الدكتوراه، مؤكدا على أنه لم يواجه صعوبة في الاندماج مع زملائه رغم فارق السن. يعمل « ي « حاليا في القطاع الخاص ويواصل دراسته، مؤمنا بأن الاجتهاد والمثابرة يفتحان أبواب النجاح دائما.
حكايات محفّزة بطعم الأمل
بين حكاية وأخرى يوجد أمل، وتوجد حكايات أخرى تنتظر أن تكتب تفاصيلها بحبر الإرادة وأن تجد طريقها إلى الواقع فهي لا ينقصها إلا الخطوة الأولى، مع ضرورة التفاتة الدولة لهذه الفئات عبر تقديمها لكل الدعم اللازم لعودة الأشخاص إلى التمدرس كتوفير تحفيزات مالية، وفرض تسهيلات إدارية وتبسيط المساطر وتذليل الصعاب، وإعداد البرامج التأهيلية، كما يمكن للجهات المختصة المعنية بهذا القطاع أن تمكّن المواطنين من استئناف تعليمهم وتحقيق طموحاتهم، باعتماد برامج للتعاون مع مؤسسات غير حكومية لتقديم دروس تقوية مجانية، مع توفير منصات تعليمية رقمية مجانية أيضا للوصول إلى المناهج الدراسية بسهولة، وإنشاء مراكز لدعم وإرشاد ومساعدة هذه الفئة أكاديميا ونفسيا.
إن هذه العودة للدراسة، قد لا ترتبط بما هو مادي متعلق بالحصول على شهادة من أجل الارتقاء في المسار الوظيفي، لأنها قد تساهم بشيء أكثر أهمية للصالح العام وهو الرفع من مستوى التثقيف والتوعية في صفوف المجتمع، الأمر الذي لا يقدر بثمن، فالمجتمعات الواعية تكون قادرة على النهوض والتطور وتحقيق التنمية، وبالتالي يبقى من المهم جدا التفكير في كيفيات تبسيط إجراءات عودة المنقطعين للدراسة وتقليل التعقيدات التي قد تعترضهم كما هو الشأن بالنسبة لتقليص مدة الانتظار بين مرحلة تعليمية وأخرى، لتدارك الوقت بالنسبة لبعض الفئات الذين يكون عامل الزمن حاسما بالنسبة لهم.
صحافية متدربة