يقول غارسيا ماركيز «إن الحياة ليس ما يعيشه أحدنا وإنما ما يتذكره ومن يتذكره وكيف يتذكره». انطلاقا من هذه القولة، فالتذكر هو إعادة تركيب للأنا في جميع لحظاتها، بحثا عن الانسجام بين التذكر والحقيقة، وبين المتخيل والواقع، جسرا مريحا لبناء نوع من التوازن في شخصية الكاتب.
لكن ما معنى أن يكتب شخص ما أو كاتب ما عن ذاته، أو عن سيرته الذاتية، أو أن يكتب عنه الآخرون سيرته في الحياة أو في الكتابة. ثم في أي جنس أدبي يمكن تصنيف السيرة، إذا ما اعتبرنا أن كل كتابة هي كتابة عن الذات. إذ قد نتحدث عن سيرة القصيدة، وسيرة الرواية أو القصة، وسيرة السياسة وغيرها.
ولإن قيمة كتابة الذات لا يمكن النظر إليها في صدق ما تتضمنه من أحداث وسرود ولا في اسلوبها الجمالي، فإن رهانها كشهادة إنسانية، يكون عما تقدمه عن تجربة صاحبها أو غيره.
إذ توثق السيرة الذاتية لتجربة إنسانية، قد تكون شخصية، بضمير المتكلم أو بضمير الغائب، يرويها صاحبها بنفسه، مثلما فعل طه حسين في كتابه الأيام، أو يلعب فيها الخيال دورا ك(اعترافات جان جلك روسو) وقد تعبر عن التجربة الروحية والتحليل النفسي مثل(اعترافات) القديس اوغسطين، وقد تكون صادمة بما تحمله تحولات الأحداث في مسار الحياة مثل «الخبز الحافي» لمحمد شكري، كما قالت عزيزة الطائي، في كتابها الذات في مرآة الكتابة.
يكشف نص السيرة هذه «بعيدا عن الضريح»، رغم أنه كتب بصيغة حوار مع إحدى الجرائد المغربية-المساء-، رغبة الكاتب في التعبير عن لحظات من حياته الثقافية والسياسية والاجتماعية. هو يكتب عن حالة شخصية، والعنوان يبدأ بحال «بعيدا»، يتردد المؤلف في مجموعة من النقط والأسئلة، ويصمت على الإجابة عن البعض الآخر، أو قد يلتزم الحياد في أحايين أخرى. نحن امام شخصية بأبعاد ثلاثة: فاعل سياسي ووطني ومخضرم، فتح عينيه على نهوض الحركة الوطنية في الخمسينات، وتحول فيما الى مناضل يساري بعد حصول المغرب على الاستقلال، منذ الستينات في صفوف حركة 23 مارس ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي والحزب الاشتراكي الديمقراطي؛ خبير وباحث كبير في القضايا العربية القومية وأهمها القضية الفلسطينية واللغة العربية؛ ثم أحد أهم مؤسسي الدرس الجامعي المعجمي بالمغرب. كانت هذه إحدى شروط كتابة وتدوين مذكراته وسيرته الذاتية التي تصل اليوم إلى جزئها الثالث، بعد الضريح والضريح الآخر.
وما يثير الانتباه في هذا النص، هو العنوان، كأحد العتبات الأساسية للقراءة والتأويل. إنه يتضمن عنصرين أساسين أو متغيرين، هما الضريح والبُعد. فبالنسبة للضريح، فهو من جهة ورد في الجزأين الأولين من سيرة الكاتب الذاتية. ومن جهة أخرى، يطرح سؤال المعنى، بالنسبة لمفهوم الضريح، دلالته والغاية من تكراره. كما يجعلنا نتساءل، هل المقصود به البعد الجغرافي، باعتبار أن الكاتب، ابن حومة الزاوية العباسية، حيث يوجد ضريح سيدي بلعباس بمراكش، مسقط رأسه ومقر سكنى عائلته. لكن حين نتوغل في قراءة نص السيرة، وبخاصة في ارتباطه بالمصطلح الثاني الوارد في العنوان، أي البعد، يتضح لنا البعد السياسي للضريح. وهو ما يرد بشكل خاص في الصفحة122 من الكتاب. وهنا تبدأ بعض علامات القراءة، ومسالك الولوج إلى النص، في البروز وتقديم مفاتيح التناول والمعالجة.
وهو ما يساعد على إدراك زمنية السيرة وإحداثياتها، في مسار الرجل وسيرته الذاتية. إذ تشعر، وربما تستخلص تحولات شخصية الكاتب أبو العزم من كرسي السياسة إلى محراب العلم المعجماتي. من السياسة بأحلامها وآلامها ومساربها إلى فهارس اللغة وبيانات المعاجم.
لكن هذا النص السيري، بالرغم من ذلك لم يسلم من هوى السياسة وهوائها، في الإجابة على بعض القضايا، وفي إضاءة أخرى، لها معنى ودلالة في مفاصل حياة الكاتب السيروية، مثل تحوله إلى اليسار، ومنعطفاته وتحولاته، وانخراطه فيه. وأيضا في الانهجاس بإشكاليات السياسة اللغوية مضمونا ومعجما وتدريسا. وهو ما يبرِز بشكل كبير خبرته العلمية في هذا المجال. وأيضا في مجال حقوق الإنسان، وبخاصة في الدور الذي قام به في نشأة وتأسيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان.
هذه السيرة تتناول مجموعة من القضايا التي نالت من اهتمام الكاتب، من أهمها سؤال المعجم أو العمل المعجمي؛ ثم سؤال اللغة في ارتباطها بقضية الهوية المغربية، ثم سؤال حقوق الإنسان بالمغرب؛ كما تناول سؤال اللغة والطفل، المرأة وأسئلة الإبداع والتلقي. وهي أسئلة ترتبط بصاحب السيرة كأسئلة شائكة ومصيرية في الثقافة المغربية، وفي أفق تجديدها بالمغرب الحديث.
وإذا ما ركزنا على محور تفكير المؤلف وجوهر الذات، وهي مسألة الحرية في الإبداع والحقوق والإنسان في أبعاده العامة. وهي أسئلة تعكس حياة المؤلف وتفكيره، كان يعيش لها ومن أجلها، سواء في الخارج أو في الداخل.
كما أن هاجس المؤلف في نقل تجربته، هو قراءة زمنية التحول السياسي بالمغرب، منذ حصول المغرب على الاستقلال، الذي يعكس بشكل عام، التوتر الذي كان قائما بين السلطة والرغبة، السلطة والمصلحة، الثقافة والسياسة، من أجل مغرب ممكن حديث.
ويتضمن الفضاء السيري لسيرة بعيدا عن الضريح، الأمكنة والعلاقات، التي تشكل الفضاء الذي كان يتحرك فيه الكاتب. كما يمثل عنصرا أساسا في الميثاق البيوغرافي له:
– الأمكنة كحيز للوقائع والأحداث التي عاشها صاحب السيرة. سواء بمراكش أو بالخارج (فرنسا -العالم العربي)؛
– والعلاقات، أي كل ما يشكل النسيج الاجتماعي للمؤلف، وبخاصة مع الأشخاص والمؤسسات. وهنا لا بد من الحديث عن علاقته الوطيدة مع الأستاذ أحمد التوفيق، إذ يذكره في مجموعة من اللحظات التي كانت تربطه معه. سواء خلال الدراسة بمراكش، أو عند خطبته الأولى بفاس، وبخاصة خلال زواجه بفرنسا. أو مع صديقه صدقي أزايكو، خلال إنجاز عمل معجمي (عربي-أمازيغي). أو مع مجموعة من القيادات الفلسطينية والعربية. ومع مجموعة النساء اللواتي صادفهن وبخاصة في الخارج؛
-الاهتمام بالجانب القومي سياسيا (القضية الفلسطينية) ولغويا (المعجم)= الغني-الغني الزاهر-العمل المدني المعجمي العربي؛
-التأكيد على أسئلة الحداثة، وأهمها الاستناد في الصراع والحوار والتموقع إلى المرجعية الديمقراطية، سواء بالنسبة للدولة أو المجتمع، المدرسة أو التنظيم. وهي من القضايا الكبرى، التي تبرز رأيه وموقفه، نحو قضية الحداثة والتقدم.
هذه الفضاءات السيرية، والموقف منها، هو ما يشكل العالم السيري للمؤلف، والموقف الثقافي والسياسي منها. ويتجلى ذلك فيما يلي:
-الحوار السياسي، من خلال الموقف من إنشاء منظمة 23 مارس، والموقف من الصحراء، ومن العودة إلى الوطن، والدور الذي قام به خلال المؤتمر الأول للمنظمة؛
-الموقف الثقافي والأخلاقي من مجموعة من القضايا السياسية والمبدأية التي يؤمن بها.
وتبدو هذه السيرة-بعيدا عن الضريح- كتابة ضد الكتابة، سيرة تناقض نفسها، من خلال التناقض في الموقف، وليس من الأسباب. ولذلك فهي تنزاح في ميثاقها الأوتوبيوغرافي، من حكي السيرة إلى كتابة نقيضها. وبخاصة في سيرة السياسة. على اعتبار أن السياسة وممارستها، كفَنَّ للممكن، تتميز بحيويتها وبتحولاتها، وفق ميزان القوى، وحسب ظروف الحدث السياسي(توترات ما بعد الاستقلال، وبناء الدولة الوطنية الحديثة).
وهي كتابة تخرج من سياق الكتابة التقريرية لسيرة الأنا في الحياة، إلى كتابة الذات في تعالقها مع شكل تحديات الواقع بمختلف تمظهراتها وبنياتها الشخصية والمؤسسية. وهو ما يعني محاولة القرب من الواقع، رغم أن العنوان يحيل على البعد، وهو بُعدٌ فزيقي من جهة-عن الضريح والضريح الآخر- وعن مراكش أساسا. وذلك لكي يقترب المؤلف من أسئلة التاريخ والحزب والبحث العلمي وأسئلة حقوق الإنسان وغيرها.
ونجد القرب أساسا إلى القضية الفلسطينية وتاريخا وتعقيداتها. ومن جهة أخرى إلى إشكاليات المعجم وأولياتها المعرفية والتطبيقية والمؤسسية. كما أن هذا القرب يتجلى بشكل خاص في المعرفة المعجمية والمعرفة العميقة بعالم الموسيقى العالمية والعربية. وهو ما يبرز الكفاية الفنية والسياسية واللغوية للمؤلف، وغنى مكونات شخصيته وحسه الأدبي والإبداعي الرفيع.
أخيرا، هل يمكن اعتبار السيرة، شهادة على مرحلة، أو تقييما لها بمعنى من المعاني، تتوخى إبداء موقف، ولو بشكل متستر، يخفي لغز علاقات غامضة، ضمن تنظيم ما. هو ما ينكشف أحيانا، ضمن ما يتلاشي من عربة الكتابة في المسافة بين المنفى والبوح. على اعتبار أن كل كتابة هي بوح بنفَسٍ خفيٍّ. أو بشهقة تحتاج إلى ماء الكتابة، لتسيل في نهر الحياة، وبين الناس. شاهدة على موت مرحلة، أو إماتة للموت بلغة أدونيس.
حين نقرأ سيرة بعيدا عن الضريح، ننتهي في شقها السياسي، إلى رغبة الكاتب في الكشف عن أسرار، هي محطات ووقائع، تبرز إسهام الكاتب في مشروع ثقافي وسياسي يساري، كان يميز المرحلة، بصعوباته، واختلافاته، وأفكاره، في سياق سياسي مغربي ودولي مأزوم. بإسهاماته وأخطائه في التقدير. لكن بوعي التجاوز البناء، وبخاصة منذ منتصف السبعينات. بالتعبير عن الموقف الوحدوي الوطني من قضية الصحراء المغربية، وفي العودة إلى الوطن، والانتقال إلى الشرعية السياسية. بداية الثمانينات وما بعدها.
أما بالنسبة لباقي اهتمامات الكاتب، أبو العزم، فتتجلي في إسهامه في المشروع المجتمعي والوطني لبلاده في التغيير والتقدم، سياسيا وثقافيا، بالارتكاز على الفكر الديمقراطي، وبالتأسيس لثقافة حقوق الإنسان وترسيخها في المجتمع المغربي، والانخراط الصوفي في القضايا القومية واللغوية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، واللغة العربية؛ ثم التأسيس للمشروع المعجمي العربي بالمغرب وبالعالم العربي، وإرساء الدرس الجامعي المعجمي بالمغرب.