تخليدا للهش والمنسي .. عبد اللطيف البطل فنانٌ يلونّ ويرسم نصوصا شعرية

يراوح المنجز الإبداعي عند عبد اللطيف البطل بين المكتوب والبصري، إذ يشتغل على ثنائية الشعري والصباغي، وفي كليهما يحضر الفرد في بعده الهش والإنساني المُنطبع بآثار الزمن وتحولات الأحوال وتقلباتها، إذ ينطلق من دواخل الكائن في علاقته بهشاشة العالم، ليرسم لوحات مجسدة لتجاعيد وآلام الدهر على ملامح شخوصه، التي بقدر ما لا تشبه أحدا فهي تشبه الكل، أي إنها وليدة المخيلة والمعيش معاً.
مزاوجة الكتابة الشعرية، الزجلية، وفن التصوير الصباغي، جعل من الأثر الفني الصباغي لدى البطل يغدو نصوصا شعرية مرئية، ويؤكد ذلك تلك الاستدراجات الكولاجية أو الكتابية التي يوظفها الفنان-الشاعر ضمن فضاء المشهد التصويري لديه. فالعلاقة بين الشعر والرسم وثيقة ومعقدة. إذ يشترك كلا الشكلين الفنيين في القدرة على التعبير بشكل خلاق عن المشاعر والأفكار والخبرات البشرية. حيثُ يستخدم الشعر الكلمات لإنشاء صور مرئية في ذهن القارئ، بينما تستخدم اللوحة الألوان والأشكال والقوام لإنشاء صورة مرئية مباشرة. ومع ذلك، يمكن أن يتداخل الشكلان الفنيان، أيضًا، مع القصائد التي تستخدم صورًا بصرية قوية ولوحات تحكي قصة أو تعبر عن عاطفة أو تنطوي على مقاطع شعرية أو مستوحاة منها.
استلهم العديد من الشعراء من الرسم، وغالبًا ما يستخدمون إشارات إلى الأعمال الفنية الشهيرة في قصائدهم. وبالمثل، فقد استوحى العديد من الفنانين من الشعر، وابتكروا أعمالًا فنية تعكس الموضوعات والعواطف الموجودة في القصائد. العلاقة، إذن، بين الشعر والرسم هي علاقة شكلين فنيين يسعيان إلى التقاط جوهر التجربة الإنسانية من خلال استخدام وسائط إبداعية مختلفة.
عبد اللطيف البطل الزجال التشكيلي الذي يُحاول التعبير بيديْن، يد للشعر وأخرى للصباغة. يُطوّع اللغة الدارجة لصالح بلاغة شعرية ترسم ملامح وبورتريهات أو تَنقل الأشياء الجامدة إلى مستوى الكائن، عبر شخصنة تهبها هوية وروحا.. أو من خلال رسومات صباغية تعمل على تصوير شعرية المتروك للزمن. فلا تجريدية في أعماله، المنتمية إلى التشخيصية في ملمحها التعبيري والسيمولاكري معاً، وهو ما يجعل أعماله في البعدين الشعري والتشكيلي، تحمل روحا سردية قابلة لتعدد التأويل.
ولأنه في البدء كان السرد، يحضر هذا الأخير طاغيا في شكل المتشظي والتهكمي والهزلي والمرح، الذي يحمل في طياته وبين أطره الملمح الجاد والنقدي، يحضر ضمن نصوصه الشعرية وأيضا مدرّجا على ملامح الشخوص البصرية، هذه الأخيرة التي تتخذ تجليا فرديا (بورتريهات) أو جماعيا.
في سلسلته الصباغية التصويرية الأخيرة، يعمل الفنان على بورتريهات داخل إطار تصويري أمريكي، مُكبّر، كأني به يعمل على تسليك عين الرؤية على ملامح الوجه خاصة، لا الجسد كاملا. أو بتعبير مغاير، فهو يستعين بالجزء للتعبير عن الكل. فأجزاء الجسد تختزل تفاصيله وتُكثفها، وتجعل المتلقي يعمل على إكمال الصورة انطلاقا من مخيلته وما راكمه وعرفه وخبره. وهو ما يقوي العلاقة بين المُبدع والرائي ويجعلهما الصانعين للعمل، الأول بيده والثاني بمخيلته. وهو ما يمنح لكل منجز تعددية تأويلية، تتأتى من تعدد الرؤية والنظر، حيث إن قراءة العمل الفني ذاتية وتعتمد على وجهة النظر والتجارب الشخصية للمشاهد. قد يكون لكل فرد تفسير مختلف للعمل اعتمادًا على خلفيته الثقافية والعاطفية والفكرية. وقد يكون للفنان أيضًا نية معينة وراء عمله، لكن هذا لا يضمن أن يدرك المشاهد الشيء نفسه. مما يعني أن تأويل العمل الفني عملية شخصية وذاتية يمكن أن تختلف اختلافًا كبيرًا من شخص لآخر، وهو ما يمنح لكل منجز أرواحا تكاد تكون لامتناهية.
يضع عبد اللطيف البطل في أعماله المتأخرة المتلقي إزاء نوافذ تطل على عالم فسيفسائي، تسبح فيه مخطوطات يدوية، وتتراءى منه بورتريهات غيرية، لوجوه متخيلة. وجوه لكائنات آدمية تتسم بتعدد لوني وصباغي، يكاد يهبها تنوعا هوياتيا وثقافيا، وكأني بها تقدم الأعمال الفنية، هنا، وتعكس مجموعة كاملة من المعرفة عن الذات وحول العالم والفن نفسه. سمتها في ذلك تلك الملونة المتنوعة التي يعتمدها الفنان في تصوير وتلوين ملامح شخوصه المتخيلة التي تُشبهنا في التعدد الهوياتي والثقافي.
إننا لسنا ذاتا واحدة متكاملة وموحدة متصلبة، بل إننا ذوات متشظية تسكن الجسد، ذريعتها للوجود. وأما على المستوى الفني يفترض اختراع الذات تشظيا للأنا: يحدث في التمفصلات التي تفصل بين الهيئات المتتالية. يمنح البطل شخصياته ذاتية متعددة، زائلة ومتماهية مع الفضاء العام للعمل. إنها شخوص ذات الأنا المتقطعة؛ لا يتم ضمان دوامها حتى عن طريق الذاكرة، لهذا لابد من تتبع ملامح الأثر وتشكيل المنطبع على دوران التاريخ المعماري والحضاري، وهو ما نلمسه من خلال تلك الفسيفساءات والكتابات شبه المخطوطية. وهو ما يمنح المنجز ما يُصطلح عليه بالاستعارة المتعلقة بالظاهرة الأسطورية المتمثلة في التقمُّص أو التَمَسُّخ la métempsycose. وهو ما نجده عند فنانين عالميين سواء تشكيليا (فرانسيس بايكون) أو أدبيا (كافكا، بيكيت).
إننا إذن متعددون داخليا، وحتى جسديا، لا ننتمي إلى أي عرق نقي أو هوية ثابتة، إننا منذرون إلى التشظي والتعدد. محكومون بقانون التنوع البيولوجي والهوياتي والثقافي.. تسكننا ذوات متنوعة تتخذ حضورها في أجسادنا من الماضي المتحرك الذي قاد البشرية الى ما هي عليه اليوم. وكل حركة تتطلب بالضرورة تغيرا وتبدلا، وهو ما تجسده لوحات وملامح شخوص عبد اللطيف البطل، القائل بأن «البشرة الآدمية هي خليط من الألوان والعلامات، إنها جدار محفور عليه لونيا آثار التغير والترحال البشري». رغم كل هذا التعدد فالفنان-الزجال، يمنح شخوصه فضاءً بسمات مغربية مستوحاة من الطابع الزخرفي الذي يؤثث الحيز البصري. مخلص البطل إلى «التمغرابيت»، وهو ما يتحد مع نصوصه الشعرية القادمة من عبق الفضاء المغربي.
«ابليقامة ابروج /و بنعناع عبدة / وبكشكاش الموج» (جبان كولوبان، ص. 17)
تتحرك كل من قصيدة ولوحة لعبد اللطيف البطل بتمفصل واحد، قوامه التعبير عن هشاشة الكائن والمنفلت والمنسي، متتبعا الأثر اليومي والمختبئ في ثنايا الماضي، محوّلا المعتاد إلى مرئي واضح، فما تتعدد رؤياه يصير منسيا في الوعي.. وهنا تكمن جماليات نصوص وأعمال هذا الفنان الشاعر، الذي يرسم بالكلمات ويكتب شعره بالصباغة والألوان.


الكاتب : عزالدين بوركة

  

بتاريخ : 31/03/2023