«تخييل الهوية في الرواية العربية» للدكتور بوشعيب الساوري .. مقاربة ثقافية في تشريح الأنا المتعددة

لم يعد النقد منذ انفتاحه الكبير على الإشكاليات المتشعبة للكتابة السردية مجرد تابع، الرد بالكتابة، للنصوص السردية مشرّحا لها سالكا خارطة الطريق التي حددته سلفا، بل أصبح صانع المعنى، البحث بالكتابة، مختطا لنفسه مسار سيرٍ تصبح فيه الكتابة السردية دلائل على المعنى شاهدا عليه بدل أن تكون الصانع له ويكون النقد المكتشف له وفق رؤية نقدية مسبقة مفكر فيها وفق منهج وأطروحة فكرية. وفي هذا الإطار، إطار النقد السردي، المظلة umbrella، الذي يستدعي المناهج والمعارف لصناعة المعنى ويستدعي النصوص لتكون شاهدة عليها يأتي كتاب الدكتور بوشعيب الساوري «تخييل الهوية في الرواية العربية» ليكون كتابا نقديا يبني الفكر الفلسفي في قالب نقدي، ليس بالمعنى التقليدي للنقد الأدبي، بل بالمعنى الأوسع الذي يمكن لنا أن نسميه ثقافيا.
ليسَت الهويةُ سؤالاً فلسفياً مجرداً يُطرَح في أبراجٍ عاجية معزولا عن سياقه، بل هي مادةٌ حية تنبض في صميم النصوص الإبداعية، تُصارع، تتشكل، تتصدع، وتتجدّد، وتصنع أساسا، يأتي كتاب الدكتور الساوري «تخييل الهوية في الرواية العربية» بمثابة رحلة نقدية عميقة داخل مختبرات التخييل الروائي، حيث تُصنع الهويات وتُفكك، في محاولة جادة لالتقاط نبض الذات العربية في لحظاتها الأكثر التباساً وأزمةً وانتفاضة.

الإطار النظري والمنهجي: تفكيك الهوية عبر حقول معرفية متقاطعة

لا ينطلق الدكتور الساوري، وهو الناقد والأكاديمي المغربي المخضرم منهجيا، من برج عاجي، بل يغوص في إشكالية الهوية بوصفها منشغلا فكريا وفنيا مركزياً في الرواية العربية، قوة هذا الكتاب تكمن في تصوره النظري الموسوعي، حيث لا يكتفي بمنظور أدبي ضيق، بل ينفتح على حقول معرفية شقيقة انشغلت بإشكالية الهوية، أبرزها: علم النفس، علم الاجتماع، الفلسفة، والدراسات الثقافية، ولذلك جاء الكتاب بأسئلة كبرى حددها الكاتب نفسه من خلال مقدمته، هذه الأسئلة/ الإشكالات هي:
كيف تمثلت الروايات العربية أزمة الهوية وما هي الحلول التي اقترحتها لمواجهة هذه الأزمة؟ كيف يتم تخييل العنف وتحيينه وجعله ظاهرة؟ وأي دور يضطلع به؟ زكيف يقربنا من الهوية؟ ما درجة حضور الآخر في تشكيل الهوية، وما دوره في صناعتها؟ ما دوافع إعادة تشييد الهوية وكيف يتم ذلك؟
إن أسئلة كبيرة كهذه، هي أسئلة تطرح إشكاليات كبيرة حول موضوع راهن وتاريخي، فللهوية مستويات وحدود متعددة تتجاوز الحقل المفرد لتتشظى عبر حقول معرفية تستلزم تعددا منهجيا خاضت الدراسة غماره باقتدار ودون ثقل منجي أكاديمي جاف، هذا التعدد المنهجي ليس ترفا أكاديميا، بل هو استجابة لطبيعة الهوية ذاتها المتسمة بـ «التعددية»، فالهوية الفردية متشابكة عضويا مع الهوية الجماعية، والاجتماعية مع الوطنية، والعقائدية مع الفكرية، لقد أدرك الساوري أن مقاربة هذا التعقيد تتطلب أدوات متنوعة، فجاء كتابه ليشكل نسيجا مترابطا من القراءات التي تتناول الهوية من زوايا متعددة ولكنها متكاملة.

الإضافة النوعية: من أزمة الثبوت إلى تشييد الذات

يمثل هذا الكتاب، الذي استحق أن يمثل المغرب فائزا بجائزة كتارا للنقد الروائي، إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية لعدة أسباب:
1. الانتقال من التشخيص إلى التشريح الآلياتي: بينما ركزت العديد من الدراسات السابقة على وجود إشكالية الهوية في الرواية العربية، يتعمق الساوري في آليات تمظهر هذه الإشكالية، فهو لا يكتفي بالقول إن الشخصية تعاني من أزمة هوية، بل يحلل كيفية تجلي هذه الأزمة عبر «عنف السرد»، و»فوضى السرد»، و»السخرية»، كما يظهر في فصله عن «أزمة الهوية»، هذا التحويل من مستوى المضمون إلى مستوى البنية السردية هو أحد أهم إسهامات الكتاب.
2. مفاهيم مركزية جديدة لقراءة الهوية:
يقدم الكتاب مجموعة من «المفاهيم المركزية» التي تشكل عدسات لقراءة النصوص، وهي: الأزمة، العنف، الآخر، والتشييد، هذه المفاهيم الثقافية ذات الخلفيات النظرية المتعددة ليست جامدة، بل لها تلويناتها الخاصة في كل نص روائي، فـعنف الهوية لا يقتصر على العنف الجسدي، بل يتعداه إلى عنف الذاكرة وعنف الخطاب السردي نفسه، وبالمقابل، فإن تشييد الهوية هو عملية ديناميكية تتراوح بين فهم الذات والوعي التاريخي واكتشاف الوطن… ليترك الكتاب للقارئ فرصة ليفهم ضمنيا وتصريحا أن الهوية تشكّل بآليات تجعل منها منتوجا لصراع بين قوى متعددة موضوعها الأساسي الهيمنة.
3. الجسد كساحة للصراع الهوياتي:
يُعد الفصل الخاص بـعنف الهوية وعلاقته بالجسد إضافة بالغة الأهمية، يذهب الساوري إلى أبعد من الرمزية السطحية للجسد، ليكشف كيف يصير الجسد ساحة تسجل عليها صراعات الهوية، عبر وصف الجسم، العنف على الجسم، وإمكانية الجسم، هذه المقاربة تجسّد التجريد وتجعله ملموسا، مستفيدة من حقل الدراسات الثقافية الذي يرى في الجسد نصا ثقافيا بامتياز.
4. الآخر بوصفه مرآة متعددة الوجوه:
يتجاوز الكتاب النظرة التبسيطية للآخر بوصفه عدوا أو نموذجا للمحاكاة، ففصل الآخر وسؤال الهوية يقدم تحليلا دقيقا لعلاقة معقدة، تتراوح بين إثبات الهوية عبر الاقتراب من الآخر ومواجهة زيف صور الأنا، وصولا إلى انتفاض الهوية، يحيلنا هذا على الدراسات الفلسفية العميقة للآخر بوصفه أنا أخرى أو بوصفه ذلك الغريب، وهنا يستدعي الساوري صورا متعددة لمقاربة موضوع الآخر من أجل أن يستثمر القراءات السابقة دون أن يثقل على القارئ بها، فالآخر هنا إذن ليس كتلة واحدة، بل له وجه آخر قد يكون جسرا للفهم الذاتي.

السياق الثقافي والنقدي: امتداد لمشروع الساوري الفكري الشخصي ولمشروع ثقافي متخلق

يأتي هذا الكتاب تتويجا لمسيرة الدكتور الساوري الطويلة في حقل النقد الروائي، والتي بدأت بإصدارات مثل «رهانات رواية» (2007) و «الذات وصورها في الرواية العربية» (2016)، إذا كان كتاب الذات وصورها قد رصد تمظهرات الذات، فإن تخييل الهوية قد يكون امتدادا لفهم يتمم الصورة ويغنيها وفق المستجدات التي راكمها الكاتب من خلال مسيرته الأكاديمية، فالكتاب يحفر في الآليات التي تشكل هذه الذات وتعيد إنتاجها، كما أن اهتمام الساوري بدراسة «تداخل الروائي والشعري» في كتاب سابق له، يكشف عن حساسيته النقدية تجاه هجنة الأشكال والخطابات، وهي حساسية تخدمه في مقاربة هجينة ومركبة كالهوية، من خلال إلمامه المعرفي وتعدده المنهجي، خاصة أن الدكتور الساوري له معرفة أكاديمية معتبرة بالفلسفة وسبق أن اشتغل مدرسا لها وهو ما أمده بتلك الدربة التحليلية التي يحتاجها موضوع شائك كموضوع الهوية المطروق في الدراسة.
من الناحية الثقافية، يندرج الكتاب ضمن المنعطف الثقافي في الدراسات الأدبية، الذي لم يعد ينظر إلى الأدب كمجرد جماليات شكلية، بل كموقع لإنتاج المعرفة والتفاوض حول القيم والهويات، تلك القيم والهويات التي تصنع السلطة والهيمنة، كتاب الساوري هو نموذج للنقد الثقافي الذي يربط النص الروائي بسياقه الاجتماعي والتاريخي والسياسي الأوسع، مظهرا كيف أن الرواية العربية أصبحت فضاء تخييليا حيويا لتمثيل وإعادة تصور/ تمثل الهوية العربية في عالم سائل ومتغير، والذي يمكن أن يخدمنا في إعادة تمثيل هذه الهوية كما هي في الواقع المادي الذي يتشكل أساسا في المخيال الجمعي قبل أن يطبق على أرض الواقع.

خاتمة: كتابٌ يؤسس لمرحلة جديدة في النقد الثقافي للرواية

«تخييل الهوية في الرواية
العربية» ليس مجرد دراسة نقدية تنضاف إلى رفوف المكتبة، بل هو مشروع فكري متكامل، إنه يحقق نقلة نوعية من النقد الذي يصف الظواهر إلى النقد الذي يحلل الآليات والبنيات العميقة، مستعينا بأدواته من حقول معرفية متعددة ليفكك واحدة من أعقد إشكاليات الواقع العربي المعاصر كما تعكسها الرواية، وهو بهذا ينضاف للجهود العربية النقدية في تبيئة هذا المجال المعرفي الذي ما يزال يعاني من مشكل البدايات ومشكل التقليد ومشكل الضبط المنهجي.
بفوزه بجائزة كتارا المرموقة، يؤكد الكتاب على راهنيته وأهميته، ليضع الدكتور بوشعيب الساوري في الصف الأمامي للنقاد العرب الذين يمارسون نقادا ثقافيا خلاقا، بعيدا عن الصدامية المنهجية، قادرا على اقتحام مناطق الظل في النص الروائي واستنطاق ما يقوله عن هوياتنا المتعددة، المتنازعة، والمتشكلة دوما على الدوام، تلك الهويات الكامنة فينا والتي تجعل النص الروائي كأنه ذلك اللاشعور الذي يوجد فينا ولا نستطيع كشفه بسهولة، وأكيد أن هذا التقديم ترك بياضات كثيرة وإشارات مثيرة من أجل السعي لقراءة الكتاب للإضافة النوعية التي يمكن أن يحدثها سواء لدى القارئ المتخصص أو عند جماهير القراء.


الكاتب : ياسين كني

  

بتاريخ : 25/11/2025