تداخل بين حقلين

 

لا نشك في أن التداخل بين حقلي الشعر والتصوف يكون في أمور؛ منها: الكلمة والخيال. فالكلمة هي الحرفُ مُتناسلا في علاقة حب وعشق مع الأشياء، وهذه العلاقة تقوم على ركيزتين:
1 ـ المشاهدة والنظر
2 ـ الحدس والبصيرة
فالأولى أفقية وصفية وسردية، والثانية عمودية استبصارية.
والصوفي والشاعر ينْأَيَان عن هاتين الركيزتين، لأنهما تجعلان من اللغة وجودا فارغا لا شحنة فيه ولا حلمَ ولا توهج ولا إيقاعَ، بحيث يغدو المرئي محوا لغير المرئي، واللامرئي نوعًا من طمس المرئي. ولذلك نرى الكلمة عندهما تتطابق مع الشيء، بحيث يغدوان جسدًا واحدا متوحدا في لباس واحد، ذلك أن الشيء في أصله كلمة، والكلمة في أصلها هي شيء.
أما ثاني الأمرين الذي يكون فيه التداخل بينهما هو امتطاء الخيال الذي هو حضرة الحضرات ـ كما يقول ابن عربي ـ لأنه لا يتقيد بشيء، و لأنه منفصلٌ وليس متصلا. ونحن نعرف أن الصوفي والشاعر في سفر واضطراب دائمين؛ هاجسهما خرقُ الحجُب للوقوف على حضرات الوجود، وهذه الحضرات حدَّدها الصوفية في خمسٍ؛ هي:
1 ـ حضرة الناسوت : وهي مرتبة وجود الأجسام الكثيفة.
2 ـ حضرة الملكوت : وهي مرتبة فيض الأنوار القدسية، وتمتد من السماء الأولى إلى السابعة، وتشمل عالم المثال، وعالم الروحانية، وعالمَ الأفلاك.
3 ـ حضرة الجبروت : وهي مرتبة فيض الأسرار الإلهية، وتمتد من السماء السابعة إلى الكرسي، وتشملُ الأرواحَ المجردة، أي عالم الملائكة.
4 ـ حضرة اللاهوت : وهي مرتبة ظهور أسماء الله الحُسنى وصفاته العُلى بأسرارها وفيوضاتها وتجلياتها.
5 ـ حضرة الهاهُوت ( = العماء) : وهي مرتبة البُطُونِ الذاتي الذي لا مَطْمَعَ لأحدٍ في نيلها إلا التعلق بها فقط. لأنها تُمثل غيب الغيب الذي لا يمكن أن يصل إليه خيالٌ، لأنه مقامُ احتجاب الذات الإلهية بذاتها عن كل ما سواها.
والشاعر والصوفي بامتطاء الخيال والكلمة يحاولان الخروج من القيود والنعوت، والوصول إلى الذات للتطابق معها. وكيف يصلان؟ بالإشارة التي هي لغة الله في العالم، فالذي يفهم بالإشارة هو أقوى فكرا وروحًا من الذي لا يفهم إلا بالعبارة . ولذلك نُلْفِي الشعراء والصوفية يَبْقَونَ في الإشارة، لإدراكهم أن الله خاطبَ العالمَ بكامله بكل أنواع الإشارات، ومن ثَمّ كان تشبثُهم بها، فبعضهم يقف عندها، وبعضُهم يتجاوزها إلى حيث لاَ حرفَ ولا محروفَ ولا صَوْتَ. فالرؤيا هي أرض الشاعر وأرض الصوفي التي ينسجان بها وفيها لغتهما الإشارية والرمزية والمفارقة للغة الخطابات الأخرى. وهذه اللغة تفيض من النقطة باعتبارها وجودًا ومعرفةً وأزلاَ، لأن كل خطِّ منطلقٌ منها وذاهبٌ إليها. إشعاعها يُفجِّرُ حُدُوسنا فنكتبُ وننكتب، ولا كتابة دون حدوس، ولاحدوسَ دون محبة، فالمحبة هي النقطة التي فاض منها الوجود، ليكون مآله الرحمة.


الكاتب : د أحمد بلحاج آية وارهام

  

بتاريخ : 04/09/2024