تدبيــر المتوحــــد 2/1

يستطيع قارئ هذه الشهادة الوقوف على مجموعة من الآراء التي هي تعبير صادق عن وجهة نظري الخاصة. وقد كُتِبَتْ في الأصل استجابة لأسئلة قدمها لي أحد الشعراء والباحثين من المنتمين لجيل الثمانينيات بالمغرب، حيث سعى، وقد أحسن الظن بي، لإخراجي من عزلتي الثمينة ، ليتعرف على ما يشغلني في عوالم القراءة والكتابة النقدية ، وليستطلع وجهة نظري في بعض قضايا الشعر المعاصر مغربياً وعربياً، ومن خلال ذلك عن أسباب تحفظي على ما سماه بالتجارب الشعرية المغربية الجديدة، بالإضافة إلى تساؤله عن الداعي إلى تفاعلي مع الواقع الثقافي بالمغرب بأناة قريبة من الحذر.
إن مثل هذه الأسئلة مغرية ومفيدة في آن واحد، لأنها من جهة أولى أتتني من شاعر وباحث متخصص ، ولأنها من جهة أخرى، تتصل بمجال اهتمامي الأساسي ، لكن رغم هذا، فإن هذه التأملات لا تدعي لنفسها أنها قدمت إجابات شافية عن أسئلته في هذا الحيز، لكنني آمل صادقا العودة إلى ما يماثلها باستفاضة أكثر.

« ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ» سورة القصص ، الآية 23
تَقَدَّمَتْنِي أناسٌ كّانَ شَوْطُهُمُ ** وَرَاءَ خَطْوِيَ لو أمشِي علَى مَهَلِ
الطغرائي – لامية العجم

ـ 1 ـ
لا أعتبر نفسي ناقداً محترفاً. كما أنني لست محرجاً من القول بأنني لم أتريث طويلا عند سؤال مفهوم النقد أو علم النقد، ( العلم بالمعنى الموجود في العلوم الإنسانية ) لم يكن يعنيني كثيرا معرفة الجواب قدر ما كان يعنيني أن أعايش أكبر قدر ممكن من الآثار النقدية الناضجة، لكن هذا لا ينفي أن بالمستطاع الاستفادة من ألوان التعامل التي تطرحها التجارب والنظريات النقدية المختلفة ، بل أضيف أنه كلما جاءتني معرفة من أيما سبيل تزيدني علما بالأثر الأدبي الناضج، وتساعدني على النفاذ إلى أغواره أكون سعيدا بها ، متعجلا الاستعانة بها.
وعلى ضوء هذه المعايشة المديدة أستطيع أن أقول إن الناقد الحق قارئ في ذروة القدرة على التحسس الجمالي والتشبع الفني من جهة أولى، وهو، من جهة ثانية، في ذروة القدرة على الإحاطة الفكرية الواعية بمختلف العناصر المكونة للإبداع الفني، وعلى استيعاب خفايا بنائيته الإبداعية وخصوصياتها التقنية المميزة، وعلى كشف المؤثرات والمدلولات الثقافية المتعددة التي ينطوي عليها تركيب الصنيع الأدبي في مجمل تجلياته وأبعاده.
من هنا فإن النقد هو في محصلته النهائية عملية اكتناه تحسسي لجوهر الأثر، فنيا وجماليا، وهو في الآن نفسه اكتناه فكري عقلاني لخصوصيته الإبداعية، بناء شكليا، وتقنية تعبيرية، وأبعاداً ومدلولات اجتماعية تاريخية، حضارية وإنسانية على وجه العموم.
النقد له أشكال. قد نتحدث عن نظرية النقد، وقد نمارس عملية نقد، بمعنى أن نتحدث عن قصيدة أو ديوان شعر، أو حتى عن مجموعة دواوين شعرية لشاعر من الشعراء، عندما نمارس هذا فنحن نمارس عملية نقدية. بالنسبة لي أعتقد أن كل مرة أمارس فيها عملية نقدية من هذا النوع أدخل معاناة جديدة، لأن كل عمل يفرض عليك منطقاً خاصاً في تناوله. ولا يمكن أن تعالجه بالطريقة نفسها التي عالجت بها عملاً سابقاً، لأن هذا التميز والمغايرة يقتضيان منك أن تدخل إليه من مداخل مغايرة. فكل عملية نقدية هي تجربة ممارسة جديدة. إن الإنسان يستفيد من خبرات سابقة، نعم هذا وارد بطبيعة الحال ولابد منه، لكن يظل في كل مرة يتجه فيها إلى كتابة نقدية عن عمل أدبي كأنه يواجه هذه العملية للمرة الأولى. والمنهج في هذه الحالة تفرضه طبيعة المادة التي تعرض لها ونوعيتها ومدى ملاءمتها مع هذه الطريقة أو تلك. ذلك أن النص الأدبي عموماً لم يعد قابلاً للتعامل معه بأدوات جاهزة سواء أكانت وافدة أم تراثية. إن النص الحداثي يفرض على الدارس مجموعة من الأدوات التي يجب أن يواجه بها النص، فما يصلح مع نص قد لا يصلح مع آخر، وما ينجح مع خطاب لا ينجح مع آخر، وهذا كله رهين بالقراءة المتأنية الواعية التي تحاول أن تستوعب خواص الخطاب أولا، ثم تستحضر الأدوات اللازمة له ثانياً.

ـ 2 ـ
منذ البدايات استبعدتُ كل نزعة إقليمية بالنسبة للمتون الشعرية التي اشتغلتُ عليها، هي التي استأثرت باهتمامي وذائقتي الأدبية، وأمتعتني، وفتحت أمامي آفاقاً شتى كانت منغلقة من قبل. أنا باحث يتابع مسعاه حيثما تقوده ذائقته، هذه الذائقة التي ساهمت، قدر المستطاع ، عناصر ثقافية شتى في رفدها وتشكيلها وشحنها وتقويتها.
لذلك فأنا لا أكتب أبداً عن نص لا يدهشني، لا أكتب إلا عما أحب ويستحوذ عليَّ، ألم أقل منذ البداية بأنني لستُ ناقداً محترفاً؟ إن النص الذي لا يمتع هو نص بلا قيمة، ومع أن هذا ليس بجديد ، فإن التشديد على أهميته هو حاجة ملحة في هذه الأيام ، إذ كثيرة هي النصوص الجديدة التي لا تزيد قراءتها عن كونها صنفا من أصناف الاعتلاف والتبن والزؤان.
لذا سعيت للاحتفاء بالقيمة الإبداعية لعدة شعراء (السياب – صلاح عبد الصبور –  بلند الحيدري – خليل حاوي – أمل دنقل – محمد عفيفي مطرـ محمد السرغيني ـ محمود درويش ـ حميد سعيد ـ عبد العزيز المقالح – أدونيس وغيرهم) بحيث لا أمل من العودة إلى منجزاتهم الشعرية المتميزة. وهناك شعراء آخرون سيكونون موضع مقارباتي النقدية مستقبلا (سعدي يوسف – حسب الشيخ جعفر- سميح القاسم ـ شوقي بزيع ـ محمد علي شمس الدين …) أما عن العناصر التي عادة ما تغريني وتستبد بي لدراسة المتون الشعرية فهي متعددة، سأحصرها، باختصار شديد، في العناصر الآتية:
1 ـ ولعي الكبير بالموسيقى الشعرية. أنا كائن إيقاعي حتى النخاع. ولهذا لا تفتنني سوى النصوص الشعرية الممتلئة بالإيقاع المتحقق أساساً بالتفعيلة بكل أنماطها، والقوافي بأنظمتها، وبوسائل لغوية صوتية متعددة (الجناس – الترصيع – التصريع – التكرار بمستوياته وأشكاله المختلفة…)، إضافة إلى أبنية إيقاعية اختيارية يبتدعها الشاعر لتؤلف مع كل ما سبق التشكيل المتفرد لإيقاع قصيدته/قصائده. يمكن العودة في هذا المجال إلى كتاباتي عن ( السياب – صلاح عبد الصبور- محمد علي الرباوي) وإلى كتابي «حركية الإيقاع في الشعر العربي المعاصر»، وكتابي الذي صدر قبل شهور بتونس بعنوان ( التشكيل الإيقاعي .. في شعر محمود درويش ) حيث سعيتُ، من خلال كل هذا، إلى الكشف عن عناصر التشكيل الموسيقي والإيقاعي عند هؤلاء الشعراء، كما يمكن الوقوف على الطريقة التي عالجت بها قضية الإيقاع وعلاقته بفكر الشاعر وعواطفه، بتقلبات هذه العواطف والمواقف والرؤى.
2 ـ المتون الشعرية المستثمرة للتراث العربي بمصادره المتعددة خاصة، والإنساني عامة، إبداعاً وفكراً، والمبنية على وعيها العميق بهذا التراث، قديمه وحديثه، البالغ الرحابة والغنى، وقدرتها الفذة على توظيفه بآليات شتى.
3 ـ النصوص الشعرية التي سعت إلى إغناء جوهرها الغنائي بالعديد من العناصر الدرامية (الحوار – عناصر سردية – الصراع – تعدد الأصوات والشخصيات – تباين وجهة النظر ـ الأقنعة – استخدام لأكثر من إيقاع موسيقي داخل القصيدة الواحدة – ميل القصيدة إلى التجسيد والموضوعية…) وغيرها من الأساليب والأدوات الدرامية التي أغنت هذه النصوص ومنحتها آفاقا رحبة.
4 ـ تشغلني، كذلك، المتون المشتبكة بحركة الواقع وجدليته ومتغيراته، حيث يتحقق فيها جدل الشعر والحياة. إنها متون لا تفارق شرطها التاريخي.
يمكن لقارئ كتابي ( مقامات شعرية) الصادر بالأردن أن يلاحظ من خلال مقالاته، أنني حرصت على الاقتراب من هذه العناصر، ربما أكثر من غيرها، من خلال توقفي الطويل عند منجزات العديد من الشعراء مشارقة ومغاربة.

ـ 3 ـ
أشهد أن النصوص الشعرية المغربية التي أتيح لي أن أقيم معها حواراً هي قليلة العدد ولكنها بالغة القيمة. لذلك حرصت على التواصل الحميم معها، هي التي، كذلك، شكلت بالنسبة لي إغواءا نقدياً لما تنطوي عليه من عناصر أشرت إلى بعضها آنفا. لقد كتبت، لحد الآن، شهادتين عن الشاعر الفذ محمد الخمار الكنوني، فهو علامة مضيئة على الإنجاز الأجمل والأغنى والخلاق في إبداعنا المغربي المعاصر. محمد الخمار .. تجربة إبداعية فريدة ممتعة وعلى درجة كبيرة من الأهمية والاعتبار، ستبقى، حتماً، حيّة بيننا، ولن تتبدل قيمتها، أتمنى أن أعود إليها مستقبلا. بالمناسبة، محمد الخمار أستاذي، وأنا مدين له بالكثير، ومن ذلك أنه أول من عرفني على الشاعرين العظيمين السياب وصلاح عبد الصبور، رحم الله شاعرنا. أما عن شيخنا الجليل سيدي محمد السرغيني، فقد كتبت عنه مقالة مطولة بمناسبة إصداره لأعماله الشعرية شبه الكاملة؛ وأنجزتُ عن تجربته الخلاقة، قبل مدة، كتاباً بعنوان «هكذا تكلم الشاعر.. سيرة شعرية ثقافية للشاعر محمد السرغيني»( صدر عن دار «الأمان « بالرباط) . محمد السرغيني عميد القصيدة المغربية المعاصرة بدون منازع، شاعر تميز بالحكمةِ ونفاذِ النظرة وتَوَهُّج البصيرة. إنه واحد من أهم الأسماء الشعرية العربية في حداثتها المتوازنة الحديثة. هو أستاذي، ومن أقرب الناس إلى قلبي وعقلي. وهو ممن بقي لي في مدينتنا المشتركة فاس.
ولأنني لم أركز اهتمامي فقط على جيل الرواد عندنا، فقد أنجزت دراسة مطولة عن المتون الشعرية للشاعر محمد علي الرباوي، وهو من أهم شعراء جيل السبعينات، وقد ضمها للمجلد الثاني من أعماله الشعرية الكاملة. أما بالنسبة لجيل الثمانينات، فقد أفردت لديوان «المتلعثم بالنبيذ» للشاعر محمد بشكار، مقالة نقدية نظراً لقيمته الإبداعية.
من النصوص الشعرية التي لفتت نظري في الشهور الأخيرة، ما نشرته الشاعرة الرائدة مليكة العاصمي، وخاصة قصيدتها الفاتنة «مدن من سراديبها»، أرى أن نصوصها الشعرية تستحق احتفاء خاصاً ، وهو ما قمت به بالفعل من خلال دراسة بعنوان : ( مليكة العاصمي .. سيِّدة الإبداع) .


الكاتب : د. حســن الغُرفــي

  

بتاريخ : 16/10/2020

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *