تذكرة دخول لـ «سيرك الحيوانات المتوهّمة»لأنيس الرّافعي

 

أبدأ بتذكرة واحدة مجانيّة للدخول إلى السيرك، وهي من ضمن عشرات التذاكر المتاحة لي، في شكل (شذرات، تأمّلات، خواطر، أحلام، هوامش، قصيصات، وخطابات موازية) وضعها أنيس الرّافعي في بوّابة هذا المتن غير العاديّ، ليأخذ كلّ قارئ ما يشاء منها، قبل أن يدخل، أنا ما زلت عند أعتاب النصّ، واخترت هذه التذكرة لأدخل عالم هذا المبدع المغربي:
«أغلبية حيوانات السيرك لا تحبّ المرايا، لأنّها لا ترغب في الإحساس بالمرور القاسي للزمن، وكذا في اكتشاف أنّها مستحدثة فحسب من الوهم الخالص».
اخترت الموافقة على أنّي وهم خالص، ودخلت إلى حقيبة السرد المنفلت والرسومات والمونولوجات التي رسمها الفنّان الأردني محمد العامري…
أيّها القارئ المفترض، أتدري لم القراءة؟ لسدّ ثغرات في الذاكرة ولصدّ آفة النسيان، والدليل أنّي انتبهت حين قرأت اسم «رفعت سلاّم» مهدى إليه مونولوج الكركدن، تذكّرت أنّه من مدّة لم أتواصل مع الصديق، ثمّ اتضحت الرؤية والرؤيا، حين اقتنعت أنّه مات بداء سرطان الرئة، فآمنت بالقراءة حصنا شاهقا لا يخترقه شيء، أمّا أنيس الرّافعي فقد أخلص لروح رفعت سلاّم وأجاد تأبينه الأدبي، فلم أر تأبينا بهذا الإبداع وهذا الرونق، وإنّي سأعطيه حقّه وأقتطع من نصّه هذه الفقرة الموجزة المعبّرة المكثفة:
«… فصرت قيد حياتك مطمعا سائغا لجميع الصيادين القتلة والنطاسين الآفاقين، وسوف تغدو قيد مماتك نهبا مهيّأ لكافّة نباشي اللحود وآكلي الجيّف، ومن ثمّة، كانت مهمتي المستعجلة تتمثّل في استرداد القرن الخفيّ النفيس منك، حتّى تنام مرتاحا هانئ البال في رقدتك الأخيرة».
ماذا يفعل أنيس الرّافعي بالقراء، إنّه يباغتهم بالغريب والفنتازي، في مونولوج التمساح يجرّنا إلى جريمة قتل بشعة، ويصف لنا الشقة وجمال القتيلة، ويجرّنا إلى الجيران ومفتشي الشرطة، إلى آخر الحكاية، ويحيلنا إلى كائن مرسوم في لوحة، إلى تمساح أرهقه الروتين المملّ في الأكل، فانساب من اللوحة ليجرّب شيئا جديدا لا علاقة له بما تعوّد عليه من أطعمة حيوانية، إنّه الرّافعي يلهو ويعبث بالعقول، وإن كان لهوا لذيذا وممتعا:
«استنبط أنّي تعبت من أكل نفس النوعية من طعام لحم الطيور على امتداد هذه الحقبة الزمنية الطويلة، ثمّ استخلص أنّي -أخيرا- أجبرت على النزول بنفسي من داخل اللوحة الزيتية المستطيلة المعلّقة فوق سرير الحسناء الشقراء، كي أتذوّق نوعا وطعما آخرين من اللحم الشهيّ وغير الحيواني بالمرّة».
عديد الحيوانات مذكورة بالاسم والفعل والحركة والوصف كذلك، مثل القرش والنمر ومرورا بالفيل وبالجرذ وانتهاء بالبقرة، ويختتم الكاتب جرده للعالم الحيواني وتقديمه لكلّ حيوان مذكور، بسؤال «كيف يمكن إغلاق السيرك؟ « وينفي في هذا الفصل القصير وفاة الكاتب الإيطالي “دينو بوتزاتي” بصفة طبيعية ويرجع ذلك إلى أنّه «كان يضع اللمسات شبه الختامية على كتاب أثير لديه، مصحوب برسوماته الشخصية، أمضى ما يناهز ثلاثة عقود في تأليفه، تحت عنوان (حيوانات سحرية)، عندما قامت تلك المخلوقات الشنيعة، التي قضى عمره في توثيق حيواتها المفترضة وتخطيط أشكالها المحتملة، بالتهامه في شقّته خلف آلته الميكانيكية الراقنة»، وفي قوله هذا إيحاء بنهاية أخرى لكاتب هذا الكتاب شبيهة بوفاة الكاتب الإيطالي، نرجو لصديقنا أنيس الرافعي مديد العمر والنجاحات الباهرة…
هذا الكتاب محاولات للتلبّس بالحيوان والتجسد فيه، إلى جانب شطحات تأملية وهبّات جنونيّة وما يجول بالبال من خواطر منفلتة لكنّها مدروسة بعناية..، هذا متن شيّق وشاقّ يدعو القارئ إلى إعادة القراءة والتثبتّ ممّا طالعه..، قد تبدو فيه الهوامش غير مجديّة لكنّها حين تتثبّت منها تجدها المتون والأصول..
هذا كتاب بين دفتيه كلّ ما يدخل في باب الحلم ويختلط به، هذا باطن أنيس الرافعي كما هو، فما أجمله من باطن وما أرحب فكره لكي يتحمّل كلّ هذا العناء / البهاء..، أكيد أنّني خلّفت عديد السنوات بعيدا عن رافد كبير للإبداع ومنتج للمعرفة والفنّ.

عن موقع «أثير»


الكاتب :   محمد الهادي الجزيري

  

بتاريخ : 28/09/2022