هي تراتيل متشنجة منبعثة من ديوان «بقليل من الحظ» للشاعر والهايكيست المغربي الأستاذ مصطفى قلوشي. تتقاطع فيها النداءات والصيحات والأصوات الهادرة القادمة من قرارات قلب مفعم بالسوائل الحارقة. في هذا الديوان يقف القارئ على تخوم نفسية متمردة تأبى الانسحاب وترفض الاستسلام وترفع لواء التحدي. تحملنا النصوص تارة نحو الطبيعة المكتظة بالأسرار والمتناقضات لنمارس فضيلة التأمل، وتارة أخرى تقذف بنا في فوهة بركان تنصهر فيه الأحاسيس العذبة، وتذوب فيه كل الرغبات الجميلة. يعيش القارئ حالة من الحيرة والانشطار بين الحلم والخيبة، بين الإقبال والإدبار، بين المتعة والحسرة. تلك هي الآيات العاكسة لفلسفة الشاعر في هذه التجربة الشعرية، وتلك هي الخطوط العريضة لرؤيته الوجودية إلى الذات والكون والحياة والموت. تسكنه شياطين التمرد، كما تستبد به ملائكة العشق. يجلس على مفترق طريق الاختيار، يطيل المكوث على ضفاف الحيرة لعله يجد زورق النجاة القادم من الحلم البعيد المتواري خلف غيوم الشك.
ألوان قريبة من السواد
رسم الشاعر مصطفى قلوشي في هذا الديوان لوحات شعرية قاتمة، يتقاطع فيها صوت الماضي بأنين الحاضر وبأحلام المستقبل. يهيمن عليها لون السواد، وتفوح منها رائحة الموت والفقد والحرمان. هي لوحات كئيبة كتبت بمداد المعاناة. خلفيتها الموجهة تجربة حياتية قاسية وأحداث مأساوية يحتل فيها الموت مركز البطل القاهر الذي دمر القلوب وفتك بالجوارح وأخفى كل نور أو شعاع محتمل. وكيف يشع نور في هذه الحياة الباردة الجاحدة إذا أغمضت الأم عينيها إلى الأبد؟ وكيف يطيب عيش أو يحلو نوم وقد غطى التراب وجها عزيزا كان يمنح للوجود أكثر من معنى ؟ وللتعبير عن هذه الفاجعة القاسية خصص الشاعر هذا الديوان لبث نشيج زفراته التي لم يستطع كتمها، ولضخ نزيف عبراته التي أرقت جفنه ومزقت فؤاده.
ففي جسد هذا الديوان تحضر الأم الفقيدة تلميحا لا تصريحا، تحضر روحها الطاهرة لتلهم الشاعر صياغة القصيد ونظم القريض. ومع ذلك نجده قد ترك مسافة كافية بين تجربته الحياتية الخاصة وبين التعبير عن معاناة الإنسان وصراعه مع الموت والقهر والحرمان والخيبة بشكل عام. ولذلك فإن الأنثى الغائبة/ الحاضرة في هذا الديوان ليست لها تفاصيل دقيقة تمنحها هوية حاسمة، هي الأم، هي الحبيبة، هي الزوجة، هي البنت، هي الأرض، هي السماء، هي الطبيعة، هي الحياة، هي القصيدة. بل هي كل ذلك الركام من اللحظات والأيام والسنوات التي تتناسل في صمت، ولا ينسخ بعضها بعضا.هي تلك الصور الملونة الملهمة التي تظهر وتختفي بدون استئذان. وكل جزء من هذه الأنثى قصيدة جميلة مشحونة بذخيرة العشق والهوس والرغبة الجامحة.
أما الطبيعة التي كانت دوما مسرحا للجمال أو منصة لممارسة طقوس العشق، فقد صارت عند الشاعر كتابا مخطوطا بمداد التناقض، يقرأ في هذا الكتاب فلسفة مغايرة لفن الحياة. يقرأ صفحاته بحواس جديدة لا يملكها كل الناس. إن له عينا حادة ترى ما لا يراه غيره، وله سمع مرهف يصغي جيدا إلى ما تنسجه همسات الكائنات، وإلى ما يحمله حفيف الورق وخرير المياه ونقيق الضفادع وصرير الرياح. يتأمل عميقا ما وهبت الحياة من حظوظ لغيره من الكائنات. وفي المقابل يجلس على حافة الانتظار محبطا حزينا، يترقب حظه العصي العنيد الذي طال غيابه. ينتظر من يقرأ وشوم كفه ويفك شفرة أعماقه الحبلى بالأسرار والجراحات والفوضى.
نجد الصراع تيمة بارزة تنكشف خيوطها في حدة التوتر القائم بين الذات المحبطة البائسة والطبيعة الماكرة الجائرة التي لا تمنحه سوى دبابيس سامة، لا ترحم ضعفه ولا تلملم جراحه. فقد افتقد الشاعر كل شيء جميل يربطه بالحياة، افتقد قطرات الندى التي تروى بستان روحه، ولم يعد يجد من ملاذ آمن سوى منفى اللغة وسقف الكلمات ليحتمي بظلاله، ويدفن فيه انكساراته وخيباته المتتالية.
وتبرز تيمة الصراع مرة أخرى ماثلة في التمزق الداخلي الذي يدمر الذات وينزع منها كل الأحاسيس الجميلة. فمعجم الفقد والغياب والخيبة واليأس يغمر القصائد ويحولها إلى لوحات قاتمة غامقة الألوان، تنساب منها سيول الأسى والمعاناة، وتنبعث منها أصداء الخيبات وآهات الحسرة والأسف واليأس. أما الحظ فهو أعز ما يطلبه الشاعر. إنه ذاك الحبيب الغائب المقاطع للرحم العنيد الذي يأبى زيارة هذا القلب الكسير، وأما البسمة فهي تلك الغمامة اليتيمة العابرة التي لا تستقر في سماء، ولا تطيل المكوث في زاوية من ألبوم الحياة.
لكن هذه الخيبات على مرارتها وقسوتها ليست قيدا يمنع الشاعر من اقتراف جريرة الحلم، وليست جدارا سميكا يحد من تسرب أشعة الخلاص إلى مسام روحه. فهذا الحلم أكسير الحياة العاشقين وترياق البائسين والأشقياء. بريشة هذا الحلم يرسمون المستحيل زهرة بهية تسقى برحيق الأمل. بمنظار هذا الحلم يطلون على ضفاف الحياة فيصوغون من أجلها أجمل القصائد وأحلى الأغنيات. ولهذا نجد الشاعر ينظم أغنياته سمفونية من ستة مقاطع متكاملة. يغني فيها للحياة، للعمر، للخلاص، للأنس، للحب، للشعر، للآتي، للحظ العنيد. لكن هذه السمفونية ما فتئت تصطدم بحواجز باردة جاحدة لا تعكس صدى، ولا تمنح دفئا، ولا تعرف حبا. تصطدم بمنعرج حاد يسكنه شبح النسيان، فيتحول الغناء إلى رثاء، وتتغير ترانيم الحياة إلى تراتيل تنشدها الأرواح في قداس الموت.
وينتقل الشاعر إلى دفاتر الماضي كي يعيد شريط الحياة، ولكن بصور جديدة، وبمشاهد إيجابية مفترضة، وبسيناريو لم يكتبه القدر قط. فلو كانت هناك بذور للحظ في تربة حياته لكانت كافية للانفلات من قبضة الضياع الأبدي. فقليل من الحظ سيكون بلسما لكل جراحه. وقليل من الحظ سيغير مجرى المياه في حديقة وجدانه. وقليل من الحظ سيصبح طوقا لنجاته من تلك الأقدار المتربصة به. ولكن هيهات.. هيهات.. ليت هذا الحظ كان بهذا اللطف والنبل والإنصاف والكرم. إنما ذلك كله كان افتراضا جميلا لفعل لم يتحقق قط.
افتراضا
وبقليل من الحظ
كدت أكون مسمارا
على جدار قديم
….
افتراضا وبقليل من الحظ
كدت أكون سبحة سندسية
….
افتراضا
وبقليل من الحظ
كدت أكون
فراغا سحيقا
بين الأرض والسماء(ص:42-45)
ففي هذا الصوت الجريح، ذبذبات عتاب حاد للزمن المندفع نحو الأمام، جارفا معه كل اللذات وكل الأمنيات المؤجلة. عتاب لقطار الحياة السريع الذي يسير بلامبالاة نحو النهاية ولا يود الإبطاء قليلا. ولذلك يعود الشاعر إلى دهاليز الماضي حيث تسكن الذكريات الجميلة التي مضت وولت وانقضت، ولم يبق منها سوى بقايا وشظايا تجرح القلب وتدغدغ الوجدان بلا أمل وبلا جدوى، ليسلط الضوء على أشباح الألم والحنين والأسى التي تتنافس خفية لتحرق القلب وتغتال ما ظل مؤجلا من أحلام وقصائد لم تكتب بعد.
وللانفلات من مغناطيس الماضي يلجأ الشاعر إلى حديث هامس مع الذات المتشظية المحبطة، ومع الآخر الذي يسكنه ويشاغب في مجرى الروح والدم، يلجأ إلى تساؤلات حائرة عن أسرار الأحزان المتوالية، وعن كل الرغبات المجهضة.
حدثني مثلا
عن ذاك السبت الذي نذرته
للحزن والنسيان
…
حدثني عن فكرة تراودك
تأتيك مبللة بالندى
والرغبة والحنين(ص:64-65)
ولكن لا شيء أشد قسوة من ألم الفراق الأبدي. فهو السهم الذي أصاب الشاعر في مقتل، وأرداه صريعا مضرجا بدماء الحرمان، فصار ينشد أناشيد مأساوية، تنبعث من قرارات نفسه الممزقة المنهارة التي لا تطيق الصبر ولا تعرف السلوان. فحدث موت الأم الحبيبة الغالية إجهاض قاس لكل الانتظارات الجميلة، وقتل مقيت لكل محاولة لأداء أغنية الأمل. فكيف تحلو الحياة حينما يعم الظلام حنايا الذات، ونفتقد القبس الهادي والصدر الحاني واليد الرحيمة؟. كيف تحلو الحياة حينما يغتال الموت وميضا لا يمكن تعويضه؟ لذلك جاء حديث الشاعر إلى الموت حاملا رسائل التنديد، ومتضمنا عتابا صريحا لجرأته الكبيرة على اختطاف روح من تزدان الحياة بقربها. كيف للحياة أن تلبس رداء الفرح بعدما مزقه غدر الموت، ولعبت به رياح الفناء؟ كيف للحياة أن تتبرج في الظلام بعد أن سفكت الدماء، وفتكت القلوب، وحطمت مزهرية الأمل، ونثرت الملوحة في كل جزء من ذات الشاعر؟
اقرعي طبول الموت
أيتها السماء
واتركيني حافيا أسير
في عتمة دروبك
دليني إن شئت
كيف
ومن أين أستأنف الحياة
إن بقي فيها شيء من رمق الأمل(ص:67)
أما العزلة والوحدة والعتمة والكآبة والضجر والصمت، فهي مستنقعات آسنة تستحم فيها روح الشاعر رفقة أرواح المتعبين الأشقياء الذين غدرت بهم الأيام وسلبتهم الإحساس بالأمان. فلم يعد يطرق بابهم ما يسلي النفس وما يزيح عنها الهم والشجن. لذلك لم يعد للشاعر سوى اللغة ملاذا يأوي إليه، ليمارس لعبة المجازات والاستعارات والرسم بالكلمات، وليصوغ بها ملحمة الانكسارات والخسارات الفادحة.
الضوء الذي يداعب
ضفائر الريح
لا يطرق بابي
ولا يهدي خطاي(ص:72)
بل حتى التفاؤل، بالنسبة للشاعر، تغيّر لونه وشكله ورائحته، صار قرينا للعبث، شقيقا للدمار، توأما للحيرة، شبيها باليأس. ولذلك يعلن الشاعر صراحة بأنه يتفاءل بما ينبغي لليأس أن يكون. فهو يضحك للموت كي يخفي آيات القهر، ويلتقط صورة له مع الموت كي يتظاهر بالقوة والجلد، ويواري ما في العين من عبرات مالحة.
رأسي حروب أسئلة
وحيرة ضاجة
أنا متفائل جدا
إلى درجة أنني
ألتقط سيلفي مع القبور
وأبتسم للحياة (ص:76)
لغة الفقد
لم يترك الشاعر مرادفا للحزن والكآبة والخيبة إلا أوجد له مكانا في هذا الديوان، حتى استحالت قصائده إلى شبه مرثيات لهذا الزمن الكئيب، وإلى شبه هجاء للحياة الماكرة. تتناسل عبارات الضجر والعتاب والقهر واليأس لتلد موسوعة من اللوحات الكئيبة القاتمة التي تنزف ألما وحزنا وأسى. ومنذ العنوان تنتصب أمامنا إيحاءات حزينة لا تبشر بابتسامة ولا تنذر بفرح قادم. ولو قمنا بجرد للترسانة المعجمية سنجدها تنتمي لعائلة الوجع والفجع والموت والرحيل. وبهذا المعجم القاتم يرسم الشاعر صورة لنفسيته الممزقة بسكين الزمن النزق الغادر الذي يتلذذ بشقاء الحالمين، ويستمتع بنزع بذرة الأمل من تراب العاشقين. وهكذا تستوقفنا عبارات داكنة مثل: ترتجل الغياب- لم تكتمل ضحكتها الحلوة- تذبحني من القصيدة إلى الوريد- يأخذني إلى جرحه- فداحات خساراتي- شوكها المتربص بأصابعي- كلماتنا إبر- جرح الشاعر- يشعل القصيدة أنينا- يشتعل دمي حرائق- يألف العمر هذا الغياب- سأفقد كل حواسي- ترسم لي حقول اليتم والتيه والعراء- وحيدا هنا أزرع الضجر……
الحظ العنيد
يتيح لنا الشاعر منذ الغلاف التعرف على البؤرة المركزية التي تشكل مدارا لهذا الديوان وملتقى لكل المعاني المعبر عنها. فهذا العنوان مطية ذلول تحملنا إلى متاهات وسراديب هذا المنجز الأدبي المعتم، تدفعني إلى البحث عن مواطن الحظ ومواطن الإخفاق في غابة من النصوص الحبلى بالشكوى والأنين. نبحث عن صورة كاملة لهذا الحظ كمن يبحث عن تائه في الأدغال والأحراش الموحشة، فلا يظفر إلا بقليل من الحظ. ذاك شأن الشاعر وذاك نصيبه من هذه الحياة. حياة ماكرة تولد فيها السعادة غير مكتملة، ولا ينتهي فيها الفرح إلا بأنين أو عويل.
ويمكننا أن نقول بأن الشاعر حاول الوفاء لإيحاءات العنوان.. فسحابة الحظ العابرة تمر سريعة في سماء أكثر من نص، تفرغ شحناتها في قلب الشاعر مرارة وقهرا وضجرا. كما نجد في النصوص التالية:
سيرة حياة.ص12
استعارات ترفو مزق المعنى.ص27
بقليل من الحظ.ص43
لعبة التكرار
استعان الشاعر بتقنية التكرار ليمارس ضغطه على المتلقي، وليضع إشارات المرور لكل من يريد التجوال والسياقة في منعرجات هذا الديوان. فالتكرار إيقاعات حاملة لنبضات القلب، كما أنه منبّه قويّ، وبوصلة هادية تقودنا إلى المرافئ التي يلوذ بها الشاعر عند هجير الحرمان وقيظ الفقد والخيبة:
من حسن حظ الشجرة
……..ص(12-15)
شيئا فشيئا
يألف العمر هذا الغياب
……ص(24-26)
مثل مساء مرتجل
…..ص:(28-31)
افتراضا
وبقليل من الحظ
……ص:(42-45)
لن أغفر لأنفي
…….ص(48-53)
وأخيرا تبقى هذه التجربة الشعرية منفتحة على أكثر من قراءة، وتستجيب لأكثر من مقاربة نقدية. كما أنها تمنح للمتلقي الفرصة للغوص في أعماقها المليئة بالإشارات الموحية والمفعمة بقيم الجمال والإبداع. وهي تجربة تؤشر لموهبة إبداعية أصيلة متألقة تضيف للساحة المغربية اسما شعريا متمكنا من أدوات الممارسة الشعرية، يروض الكلمات والعبارات، ويرسم بها أجمل اللوحات.