تراجيديا شجرة البروكولي .. «مجتمع اللاَّتلامُسَ: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل -7-

 

إهداء
إلى مايا، صولال، ونوح :
أَبدًا، لاتَنْسُوا أَنْ تَظَلُّوا
بأعْيُنٍ مُتَطَلِّعةٍ، و أيَادٍ مَمْدُودَةٍ.

مقدمة
لَوْ كانَ بحوزةِ راكِبِي “تَيْتَانِيك” “هواتفُ ذكيةٌ / SMARTPHONES”، كَمْ كانَ سَيَبْلُغ عَدَدُ الَّذين سينْساقُونَ وراءَ إغْرَاءِ الْتِقاطِ سيلفيّ، رُفْقَةَ الأوركستر البُطوليّ، الَّذي ظلَّ يُواصلُ العزفَ حتَّى لحظةِ الغَرَقِ؟
اسْمحوا لي بالانعطاف صَوْبَ ضِفَافِ بحيرة “Vattern” بالسُّويد، لكي أُورِدَ أَثَراً سلبياً آخرَ لفِعل عَرْضِ الصور، على مواقعِ التَّواصلِ الاجتماعيّ، سأقُصُّ عليكم حكايةً ريفيَّةً، رَعَوِيَّةً ونبيلة، بقدر ما هي تراجيديَّة.
بطلُ الحكاية “Patrik Svedberg”، مُصوِّرٌ شابّ، من أصلٍ سُويْدِي. من شدَّةِ عِشْقِهِ لِمِهْنَتِهِ، لا تبْرَح آلةُ التَّصويرٍ تُرَافِقُهُ في كلِّ تنقُّلاتِه، وطالما أنَّنَا في سيَّاقِ الحديثِ عنِ العِشْقِ، فقد تعلَّق هذا الشَّاب بشجرةٍ رائعةٍ كان يُصادفُهَا، صبيحةَ كلِّ يومٍ، في طريقِهِ إلى عَمَلِه.
بشكلها الأصيلِ، ذكَّرَتْهُ بشجرة البروكولي، هذا الكرنبُ الأخضرُ القادمُ من إيطاليا. كلَّ يومٍ، كان الشَّاب يقضي بعض الثَّوانِي أمامَ الشَّجرة، مُستمتعاً بالتَّأمُّلِ في التَّفاصيلِ الصَّغيرة لِقِوامِهَا المُسْتَمِيتِ، أمام قوَّةِ الرِّيحِ وتَقَلُّبَاتِ الفصول، لم يَستطعْ “ باتريك “ مقاومَةَ إغراءِ المهنة، فَشَرَعَ في الْتقاطِ صورٍ للشَّجرة كُلَّما مَرَّ بها، آمِلاً في توثِيقِ مراحل نُموّ رفيقِ الطَّريقِ الجديدِ هذا.
قرَّرَ “باتريك”، بعد الوفرةِ الهائلة من الصور الَّتي التقَطَها، أن ينْشُرَ إحداها، عَبْرَ إنشاءِ حسابٍ، على “أنستغرام”، بتاريخ 12 ماي 2013 . حسابٌ، اختارَ له إسمَ “شجرة البروكولي” / “Broccolie Tree”. بسرعةٍ، أصبحتِ الشَّجرة نجماً رقميًّا، وباتَ الحسابُ المذكور مَوْقِعَ استقطابٍ يجلِبُ، باستمرارٍ، المزيدَ مِنَ المُتَتَبِّعِينَ الَّذين، بفضل “باتريك”، رأوا في الشَّجرة وتحوُّلاتِها، قرينةً قويَّةً على سُلْطَةِ الزَّمنِ الَّذي لا يرحم.
مدفوعاً بحماسِ مُعْجَبِيهِ المُشْتَرِكِينَ في حِسَابِهِ، وَطَّـدَ “باتريك” العلاقةَ، بمضاعفةِ لقطاتِ الصور الخاصَّة بشَجرتِه المفَضَّلَة. فاقَ عَدَدُ المُعْجَبين في العالم، ثلاثون ألفا (30,000) مِمَّنْ يتعلَّقون (رمزيًّا) بأغصانِ شجرة البروكولي. في الوقت الَّذي أخذ “باتريك”، يستفيدُ ماديًّا بعضَ الشيءِ، مِنْ خِلالِ عَرْضِهِ بعضاً من هذه الصور، في قاعاتِ العروض، أو عَبْرَ العمل على إنجازِ برنامجٍ، خاصّ بصديقهِ المُتَجَذِّر.
أَدْخَلَتِ الشُّهْرَةُ الشَّجرةَ ضِمنَ تطبيقِ “Google Maps”* الَّذي يُحَدِّدُ مَوْقِعَها بِدِقَّةٍ، وأَضْحَتْ نُقْطَةَ جَذْبٍ في بحيرة “Vattern”. يُسَارِعُ الفُضولِيُّونَ إلى رُؤْيتِها في شكلِها الحقيقيّ، وإلى تَلَمُّسِ لِحَائِهَا، و التِقَاطِ سيلفيّ أمامَها (وهو ما لم يَجْرُؤ “باتريك” ابداً، على القيَّامِ بِه)، في حين يَقْتَلِعُ آخرونَ إِحْدَى أوراقِها تَيَمُّناً بذلك.
تَألُّقٌ شعبيٌّ باتَ ينْفلِتُ أكثرَ فأكثر، مِنْ بَيْنِ يَدَيْ “باتريك”، الَّذي لَمْ يَجِدْ أَمَامَهُ سِوَى أن يَتَقَبَّلَ عواقِبَ العَرْضِ، الَّذي كانَ هو أَوَّلَ من بَادَرَ إليه.هل تَتَوَجَّسُونَ الفاجِعَة؟
حلَّتِ الفاجعة، على شكل منشارٍ يقتلع الشَّجرة ليلاً، من طرفِ مجهولين يبحثونَ عن سُمْعَةٍ سيِّئَةٍ. أُصيبت الشَّجرة في مَقْتَل، وباتتِ المصالحُ الإداريَّة، لِدَوَاعٍ أَمْنِيَة، مُطَالَبَةٌ بِاجْتِثَاثِهَا، صورةُ شجرة البركولي، و الَّتي لم يَتَبَقَّ مِنْهَا سِوَى الجُذُور، أبداً، لَنْ تَرَوْهَا، مرَّةً أُخرى، على حساب “أنستغرام” الخاصّ ب “باتريك”، الَّذي فَضَّلَ أَنْ يَحْتَفِظَ، في ذاكرته، بالشَّجرة آنَ بَهَائِهَا. بعد هذا الحادِثِ المأْسَاويّ، بزمنٍ قصيرٍ، أَيْقَنَ “باتريك” أَنَّه لو لَمْ يَقُمْ بِتَصْويرِ الشَّجرة، وعَرْضِ صورِها، لَظَلَّتْ دوماً، حاضرةً بينَ ظُهْرَانَيْنـَا.
أَنْ تتقاسَمَ مع الآخرينَ كائناً أو شيئاً تُحِبُّهُ، معناه أن تُخَاطِرَ بِفُقْدَانِهِ. قيَّاسٌ يَنْسَحِبُ على الكائناتِ النَّبَاتِيَّة، كما على الكائناتِ البشريَّة، مِثْلَمَا هي الحال عندما نَعْرِضُ، علی مَوَاقِعِ التَّواصلِ الاجتماعيّ، صُـوَرَ أطفالِنا، دُونَ موافقةٍ مِنْهُم، مُلقِينَ بِهاَ داخلَ خلودٍ رقميٍّ.
وحتَّى نَواصِلَ جولتَنَا الريفيَّةِ هذه، أَعْرُضُ عليكم قصَّة شقائِق النُّعمانِ الرَّائِعَة، بمدينة “لاك إلسينور / Lak Elsinore”. تجربةٌ سَيِّئَةٌ عَاشَتْهَا شقائِقُ النُّعمان، خلالَ شهرِ أبريل، من سنة 2019، بسببِ المشاركة البسيطة لبعض “المؤثرات” / “Inflienceuses”، اللَّواتِي يَمْتَلِكْنَ، على مواقع التَّواصلِ الاجتماعيّ، مجموعةً عريضةً من المتابعينَ.
تَصَوَّرُوا معي مَشْهَدَ مجموعةٍ مِنْ عارضاتِ الأزياء، تَتَجَوَّلْنَ داخلَ حقولٍ زاهيَة الألوان، بهذه المنطقة الهادئة. هذه العروض، الَّتي حَازَتْ آلافاً من “اللاَّيكاتِ”، كانت باعثاً على تَدَفُّقِ ما يزيدُ على مائة ألف سائحٍ مباشَرَةً، أثناءَ عطلةِ نهايةِ الأسبوعِ المُوَاليَة.
كانت رغبةُ السُيَّاحِ، إِعَادَةَ إنتاجِ الصور الَّتي التَقَطَتْهَا المؤَثِّرَات. المدينةُ الَّتي لم يَسْبِق لها أن شٓهِدَتْ أبداً، زياراتٍ من هذا الحجم، وَجَدَتْ مصالِحُهَا الأَمْنِيَّةَ نفْسَها مُضْطَرَّةً لإغلاقِ بعضِ المَحَاوِرِ الطُّرُقِيَّة. لكن حشودُ الزُوَّاِر تَوَصَّلَتْ إلى مُغَادَرَةِ المدينة، عَبْرَ مَسَالِكَ جديدة تَمَّ إِحْدَاثُهَا لهذا الغرض، داسَتِ الأَقْدَامُ بِفَظَاعَةٍ، شَقَائِقَ النُّعمان، الَّتي عاشَتْ ربيعاً دَمَوِيَّا، باسْتِسْلاَمِهَا لِتَقَاطُرٍ بَاشَرَهُ نَرْجِسِيُّونَ رَقْمِيُّونَ (Narcisses numeriques).
حِكايتان تقولانِ الشَّيْءَ الكَثِيرَ عَنِ العَوَاقِبِ السِلبِيَّةَ لحضارتِنَا الرَّقمِيَّةَ، فَقَدْ ضَحَّى “باتريك”، بكيفيةٍ غير مباشرة، وفي مَسْعَاهُ لتحْصِيلِ «اللَّايكاتِ»، والاعترافِ الاجتماعيّ، برَفِيقِهِ ذِي المائةَ سَنَةٍ، والَّذي لَمْ يَقْوَ على مقاومةِ شُهْرَةٍ بَاتَتْ مُؤْذِيَّةً.
مُقْرِفَةٌ شجرةُ البروكولي هذه، الَّتي لَمْ يَعُدْ بَهاؤها اليوم، أَكْثَرَ مِنْ بهاءٍ افتراضيّ.
“لِكَيْ تَعِيشَ سعيداً، عِشْ مُتَخَفِّيًا”، هذا التعبيرُ المتحدِّر مِنْ إِحدى حكاياتِ القرنِ الثامنِ عشرْ، يدخُلُ اليومَ، في صراعٍ مع مجتمعِ العرضِ*، الَّذي هو مجتمَعُنا في القرنِ الحادي والعشرين، والَّذي وَصَفَهُ الفيلسوف “برنارهاركورت/ Banard Harcourt” قَائِلاً: تُثِيرُ المنَصَّاتُ الرقميَّة إعجابنا بشكلٍ مذهلٍ، وما دُمْنَا لَمْ نَعْتَرِفْ بهذا البُعْدِ اللِّيبيدِيّ (Dimension Libidinale)، وَلَمْ نَتَصَدَّ له.
كَمَا أنه لَمْ نعترف بجموحِ نَرْجِسِيَّتَنَا الخاصَّة، وَلَمْ نَحِدْ مِنْهَا، فإنَّنا لَنْ نقوى على إيقافِ تَدَفُّقِ الرَّقميّ، وكذا الرَّغْبَةَ في العرضِ.


الكاتب : محمد الشنقيطي / عبد الإله الهادفي

  

بتاريخ : 04/09/2023