أراد الرئيس الأمريكي لقمته مع نظيره الروسي أن تحقق اختراقا دبلوماسيا قد يؤدي لإنهاء الحرب في أوكرانيا، ولكن بعدما حبس العالم أنفاسه وتوجهت الأنظار إلى ألاسكا، يبدو أن دونالد ترامب، وليس فلاديمير بوتين، هو من تراجع عن مواقفه.
لم يخف بوتين ابتسامته فيما وطأت قدماه أرض دولة غربية للمرة الأولى منذ أطلق غزو أوكرانيا عام 2022. وبعد محادثاته مع ترامب في قاعدة إلمندورف ريتشاردسون العسكرية، بدا أنه لم يتراجع عن مواقفه بشأن الحرب.
وفي مؤتمر صحافي مشترك تلا اللقاء وانتهى من دون السماح للصحافيين بطرح أسئلة، حذر بوتين كييف والعواصم الأوروبية من أي ”محاولات لتعطيل التقدم الناشئ من خلال الاستفزازات أو المكائد الخفية” بعدما أكد التوصل إلى ”تفاهم” مع نظيره الأمريكي .
ودعا بوتين إلى أخذ ”المخاوف المشروعة” لروسيا في الاعتبار.
من ناحيته أكد ترامب الذي يقدم نفسه كصانع صفقات ماهر، أنه لم يتم التوصل لاتفاق، مشيرا إلى أن الاجتماع كان ”مثمرا جدا” وأنه تم التفاهم على ”العديد من النقاط.. لم يتبق فقط سوى عدد قليل جدا، بعضها ليس بتلك الأهمية” دون أن يحدد ماهيتها.
ولكن بعد عودته إلى واشنطن، كتب ترامب على منصته تروث سوشال أن أفضل طريق لإنهاء الحرب ”المروعة” هو ”الذهاب مباشرة إلى اتفاق سلام من شأنه أن ينهي الحرب، وليس مجرد اتفاق لوقف إطلاق النار لا يصمد في كثير من الأحيان”.
وتحاول إدارة ترامب منذ أشهر الدفع باتجاه وقف لإطلاق النار، وهو مقترح وافق عليه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بضغط أمريكي ، بينما رفض بوتين اقتراحات الهدنة مرارا، مكثفا الهجمات على أوكرانيا سعيا لتحقيق مكاسب ميدانية.
وتعهد ترامب أن يكون حازما في لقائه مع بوتين هذه المرة، بعدما تعرض لانتقادات على خلفية ظهوره الضعيف خلال قمتهما الأخيرة في هلسنكي عام 2018.
لكن بوتين وجد طريقه للثناء على الرئيس الأمريكي مجددا، حين قال له أمام الصحافيين إن الحرب في أوكرانيا، والتي أطلقها الرئيس الروسي بنفسه، لم تكن لتقع لو كان ترامب رئيسا للبيت الأبيض، عوضا عن سلفه الديموقراطي جو بايدن.
ولطالما أثار الرئيس الجمهوري هذه النقطة منذ عودته إلى البيت الأبيض مطلع العام الحالي.
من جانبه أعرب ترامب عن أسفه للتأثير السيئ على العلاقات بين البلدين لما سماه ”خدعة” استخلاص أجهزة الاستخبارات الأمريكية بأن روسيا تدخلت لصالحه في انتخابات الرئاسة لعام 2016.
وفي مقابلة مع قناة فوكس نيوز، قال ترامب إن النظام الانتخابي الأمريكي كان من أهم النقاط التي أثارها بوتين خلال المحادثات.
وأوضح ترامب أن بوتين الذي يحكم روسيا منذ 25 عاما وفاز بنسبة 88 في المئة في انتخابات العام الماضي، أثار مخاطر نظام الاقتراع بالبريد، مشككا في صحة نتائج اقتراع عام 2020 التي خسرها ترامب أمام بايدن.
ولم تجد السلطات الانتخابية والخبراء في الولايات المتحدة أي دليل على حدوث تزوير واسع النطاق في بطاقات الاقتراع بالبريد عام 2020، والتي رفض ترامب الاعتراف بنتائجها، على نحو غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة.
لم يخف خصوم ترامب الديموقراطيون غضبهم من عدم تحقيق أي اختراق في القمة، معتبرين أنها لم تؤد إلا إلى تطبيع العلاقات مع بوتين الذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقه على خلفية حرب أوكرانيا.
ويرى غريغوري ميكس، كبير الديموقراطيين في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، أن ترامب ”أضفى الشرعية على العدوان الروسي وغسل جرائم الحرب التي ارتكبها بوتين” من خلال بسط السجادة الحمراء له لدى وصوله إلى مكان عقد القمة.وأضاف ”هذا أمر مشين”.
ويرى خبراء أنه من المبكر الحكم على نتائج القمة، إذ لم يتم كشف كل ما تمت مناقشته خلف الأبواب المغلقة.
ومن المقرر أن يستقبل ترامب زيلينسكي في البيت الأبيض الاثنين.
وقالت جينيفر كافاناه، مديرة الأبحاث العسكرية في مؤسسة ”ديفينس برايوريتيز”، إنه ثبت أن منتقدي ترامب الذين كانوا يخشون قيامه ”بتسليم أوكرانيا لبوتين أو إجبار كييف على الاستسلام”، كانوا على خطأ.
أضافت ”تركيز ترامب كان ولا يزال منصبا على إعادة بوتين لطاولة المفاوضات. هو يستحق الثناء وليس الإدانة على جهوده التي بذلها حتى الآن”.
من جهتها، رأت الباحثة في مؤسسة ”جيرمان مارشال فاند” كريستين بيرزينا، أن ”بوتين حقق انتصارا بحضوره (القمة)، بينما أتاح ظهور ترامب المتوتر وكلماته القليلة، المجال لبوتين للسيطرة على السردية”.
وتابعت ”رغم حبه للظهور، سمح ترامب لبوتين على غير العادة بأن يكون نجم ما كان ينبغي أن يكون عرضا لترامب”.
منح الأوروبيين فرصة لدور في الملف أوكرانيا
يعطي غموض مخرجات قمة الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا الأوروبيين فرصة لمحاولة التأثير على سير الأحداث في الأيام المقبلة التي تبدو حاسمة لأوكرانيا وأمن القارة.
ولم يسفر اللقاء الذي استمر ثلاث ساعات بين الزعيمين في قاعدة عسكرية في الولاية الأمريكية التي كانت تابعة لروسيا، عن أي ”صفقة” أو تقدم ملموس.
ورأى أستاذ القانون الأوروبي في كلية الدراسات التجارية العليا في باريس ألبرتو أليمانو أن ”عدم التوصل إلى اتفاق هو نبأ سار للغاية بالنسبة لأوكرانيا والأوروبيين”.
وأشار لفرانس برس إلى أن هناك خطرا حقيقيا من رسم ”خريطة أمنية جديدة في أوروبا” من وراء ظهر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وزعماء القارة.
ولا يزال البحث عن حل تفاوضي صعبا للغاية في رأيهم، فقد لخصت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس الوضع قائلة ”الحقيقة المحزنة هي أن روسيا لا تنوي إنهاء هذه الحرب في أي وقت قريب”.
من جانبه، حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من ”ميل” روسيا إلى ”عدم الوفاء بالتزاماتها”.
ورغم عدم دعوة الزعماء الأوروبيين إلى القمة التي تبادل خلالها ترامب وبوتين المصافحات الحارة والمجاملات، فقد حاولوا التأثير على نتائجها من خلال تنظيمهم سلسلة من المكالمات والاجتماعات.
وبدءا من السبت، حاولوا العودة إلى الصورة باقتراح تسهيل عقد قمة بين ترامب وزيلينسكي وبوتين. ولم تقبل موسكو هذا الاقتراح بعد في ظل فتور علاقاتها مع أوروبا التي فرضت عليها 18 حزمة من العقوبات منذ بداية الحرب في أوكرانيا مطلع العام 2022.
وفي حديثه للصحافة في أنكوريج الجمعة، انتقد الرئيس الروسي الزعماء الأوروبيين بشكل مباشر، وحثهم على عدم “وضع العقبات” أمام محاولات إيجاد حل للحرب في أوكرانيا.
ورأى المحلل المستقل المتخصص في السياسة الخارجية الروسية جيمس نيكسي أن “من الواضح أن نية فلاديمير بوتين هي دفع الأوروبيين جانبا وإبقاء الأمريكيين في صلب المفاوضات”.
صباح السبت، تحدث ترامب عن تفاصيل القمة خلال اتصال استمر ساعة مع زعماء أوروبيين والرئيس الأوكراني، ثم أجرى القادة الأوروبيون محادثة في ما بينهم.
وأكد الزعماء الأوروبيون في بيان مشترك أنه “يعود لأوكرانيا اتخاذ القرارات المتعلقة بأراضيها”، متعهدين “مواصلة الضغط على موسكو”.
وحددوا خطوطهم الحمر من خلال التأكيد أنه لا يمكن منح روسيا “حق النقض” بشأن مسار أوكرانيا نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
وأشار ألبرتو أليمانو إلى أن الأوروبيين يجدون أنفسهم “مضطرين” للتواصل مع بوتين ”دون معرفة الشروط تحديدا”، وذلك بعدما سعوا إلى فرض عزلة دولية عليه خلال الأعوام الماضية.
يزداد الوضع حرجا لأن ترامب قال إنه قد يوقف وساطته في النزاع، بعد أن وعد مرارا بحله خلال “24 ساعة”.
ويرى العديد من الخبراء أن الأوروبيين لا يملكون الوسائل اللازمة لدعم أوكرانيا لوحدهم، رغم جهودهم لتعزيز القدرات الدفاعية للقارة.
في هذا السياق، قالت رئيسة الوزراء الدنماركية ميته فريدريكسن “عندما استيقظت هذا الصباح، كان أول ما خطر ببالي هو أننا بحاجة إلى الإسراع أكثر في إعادة التسلح”.
وفي محاولة لإظهار استعدادهم للمساعدة في إنهاء أعنف نزاع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، دعا ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والمستشار الألماني فريدريش ميرتس إلى اجتماع الأحد مع “تحالف الراغبين”للدول الحليفة لكييف.
وستعقد المحادثات قبل ساعات من زيارة زيلينسكي إلى واشنطن للقاء ترامب. وقد ي دعا عدد من القادة الأوروبيين إلى هذا الاجتماع بين الرئيس الأمريكي والأوكراني، بحسب ما أفاد مصدر في الاتحاد الأوروبي فرانس برس.
رمزيات تاريخية للقاء قد يرسم معالم مرحلة جديدة
يستضيف الرئيس دونالد ترامب نظيره فلاديمير بوتين الجمعة في ألاسكا، في قمة يحفل مكان انعقادها برمزيات تاريخية، لكنها قد تشكل منعطفا نحو مرحلة جديدة في العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا.
وتعقد القمة، وهي الأولى بين الرئيسين منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض مطلع العام، في ولاية ألاسكا التي كانت أرضا روسية إلى أن بيعت للولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. كما ستجري أعمال القمة خلف أسوار قاعدة عسكرية أمريكية ساهمت في مراقبة الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة.
وسيلتقي الزعيمان في قاعدة إلمندورف ريتشاردسون الجوية، التي تحمل شعار ”الغطاء الجوي لأمريكا الشمالية”.
وفي حين قال ترامب إن بوتين هو من اقترح عقد القمة، لم يتضح ما اذا كان الرئيس الجمهوري أخذ في الاعتبار رمزية القاعدة العسكرية، أو حتى ألاسكا التي لا يزال تاريخها الروسي يثير حنينا لدى بعض القوميين الروس.
واعتبر جورج بيب، المدير السابق لتحليل روسيا لدى وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، أن اختيار ألاسكا مكانا لهذا اللقاء، يظهر التركيز على ما يوحد القوتين، أي التاريخ والمحيط الهادئ، بدلا من التنافس أو الحرب في أوكرانيا.
وأوضح ”ما يقوم به هو القول إن +هذه ليست الحرب الباردة. نحن لا نعيد إنتاج سلسلة قمم الحرب الباردة التي عقدت في دول محايدة+”.
أضاف بيب، وهو باحث لدى معهد كوينسي للحكم الرشيد، ”ندخل حقبة جديدة، ليس فقط في العلاقات الثنائية بين روسيا والولايات المتحدة، بل أيضا في الدور الذي تؤديه هذه العلاقة في العالم”.
كانت ألاسكا أرضا روسية منذ القرن الثامن عشر ولكن في ظل الصعوبات لتحقيق أرباح من تلك الأرض النائية وتضرر روسيا جراء حرب القرم، باعها القيصر ألكسندر الثاني للولايات المتحدة عام 1867.
وواجه وزير الخارجية الأمريكي آنذاك وليام سيوارد انتقادات بسبب عملية الشراء التي أطلق عليها ”حماقة سيوارد” نظرا لاعتقاد كثيرين حينها أن ألاسكا عديمة القيمة، لكن المنطقة أثبتت لاحقا أهميتها الإستراتيجية.
وسارعت الولايات المتحدة إلى بناء القاعدة الجوية بعدما استولت اليابان على بعض جزر ألوشيان (الجزر الأليوطية) عقب هجومها المفاجئ على بيرل هاربور عام 1941.
وخلال الحرب الباردة، أصبحت إلمندورف مركزا رئيسيا لمراقبة التحركات السوفياتية عبر مضيق بيرينغ.
وقبل تسعة أشهر، انطلقت طائرة مراقبة إلكترونية من قاعدة إلمندورف مع طائرات أمريكية أخرى، لتتبع طائرات روسية كانت تحلق قبالة سواحل ألاسكا.
ومع أكثر من 800 مبنى وآلاف الجنود، تعتبر إلمندورف أكبر منشأة عسكرية في ألاسكا، وتستخدم كذلك كمحطة للتزود بالوقود أثناء رحلات الرئيس الأمريكي أو وزير خارجيته إلى آسيا.
وستكون هذه الزيارة الأولى لبوتين، المطلوب بمذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، إلى بلد غربي منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022.
وقبيل وصول بوتين قام بعض السكان برسم أعلام أوكرانية لوضعها على أسطح منازلهم، آملين بأن يراها الرئيس الروسي أثناء هبوط طائرته، وإن كان احتمال حصول ذلك ضئيلا.
وقالت المعلمة ليندسي ماين البالغة 40 عاما بينما كانت تستخدم رذاذ الطلاء لرش العلم الأصفر والأزرق ”بوتين مجرم، وهو آت إلى قاعدة عسكرية هنا. في وقت سابق كان ذلك أمرا لا يصدق”.
وأضافت أن القمة جزء من استراتيجية ترامب ”للإغراق بالتصرفات الغريبة” وصرف الانتباه عن قضايا أخرى.
وتابعت ”إنه أمر مرعب بعض الشيء. كنت أفكر، هل سيعيد ترامب ولايتنا إلى روسيا؟ لا أعتقد أن ذلك سيحدث، لكن هذا أول ما خطر ببالي”.
ولا يزال التراث الروسي في ألاسكا ظاهرا بأشكال مختلفة، منها كاتدرائية أرثوذكسية ذات قبب زرقاء في أنكوريج تعود إلى ستينيات القرن الماضي.
لكن أوكرانيين اتخذوا من ألاسكا موطنا لهم أيضا قبل الغزو الروسي وبعده.
وقالت زوري أوباناسيفيتش التي ساعدت في توطين 1300 أوكراني في ألاسكا مع منظمة ”نيو تشانس” غير الربحية، إن الأشخاص الذين تحدثت إليهم يحدوهم بعض الأمل جراء هذه القمة.
أضافت ”إذا كانت هناك أي طريقة ي مكن للرئيس ترامب من خلالها التأثير على بوتين لوقف القتل، فسنؤمن بذلك. علينا أن نؤمن بذلك”.