تشخيص الرمز والعلامة في تجربة الفنان مصطفى الفقير

تتحدد آفاق كل تجربة فنية من خلال محيطها، ومدى بديهية حساسية صاحبها، انطلاقا من تربتها ومن أصالة عناصرها المكونة للتحفة الفنية، وهذا ما أفرزته تجربة الفنان العصامي مصطفى الفقير، الذي برهن على امتلاكه حساسية مفرطة في إنتاج العمل الفني على هامش التجارب الأكاديمية التي تخضع لمقاييس محددة تجعل منها ذات بعد نمطي يسير في اتجاه التصنيف.
وعلى إثر هذا المنجز التشكيلي للفنان مصطفى الفقير، يمكن الجزم بأنه توفق في خلق نمط خاص به، استقاه من تجربته الحياتية والعملية المكتسبة من احتكاكه بعدد من الفنانين بصمت الراهب والمتأمل الزاهد في خوارق الطبيعة، بحثا عن بصيص نور يضمن له فرادة خاصة لمجاورة ومحاورة ما هو قائم في مجال الفن مع الرغبة في تجاوزه.
ربما لم يكن الفنان مصطفى الفقير واعيا بالأبعاد الفكرية والثقافية التي تختزنها تجربته، نظرا لاهتمامه بالجانب الإستيطيقي منها فقط، ودون أن ينتبه إلى أن مرجعيته الفكرية هي خزينة لقواه اللاشعورية ولا يمكن الإفصاح عنها بالكتابة والتحليل إلا بما أفرزته من أسئلة لا إرادية انبثقت عن قوة دفينة داخل لا وعي الفنان، باعتباره جزءا لا يتجزأ من محيطه الغني بمعطياته الثقافي والتراثي والجمالي كذلك.
إن تجربة الفنان مصطفى الفقير، (في رأيي) تعيد النظر في مفهوم العصامية، لأنها عصامية عالمة، تقنيا ومرجعيا، بمقتضيات العناصر المكونة للأيقونة الفنية، لأنها تمتح من الذاكرة الجماعية التي ينتمي إليها من جهة، ولأن الذاكرة الجماعية في حد ذاتها تعتبر خلاصة لتسجيل تراكمات ثقافية وتراثية وفنية… في الزمان والمكان لشعوب خلت من قبل، من جهة أخرى.
فإذا كان الرمز والعلامة هما العنصران المهيمنان بصريا على سند اللوحة، فإن اكتساحهما لفضاء الاشتغال على شكل فسيفساء هو جزء من اهتمام الفنان مصطفى الفقير، بصيغة مختلفة لما تم طرحه كقضية هوياتية في بدايات الستينيات على يد الفنانين المغربيين الجيلالي الغرباوي وأحمد الشرقاوي، في اتجاه البحث عن الذات والهوية ولأجل الانسلاخ عن الاستيلاب والهيمنة الغربية على الموروث الثقافي والفني المغربي الأصيل، إذ كان الاهتمام بالتجريد من صفات هذه الاستقلالية عن كل ما هو مستورد من خارج الثقافة المغربية والعربية، لكن بشكل مغاير لما كان سائدا في الغرب في هذا الاتجاه، باعتمادهما على الرموز والعلامات التي تزخر بها الصناعة التقليدية كالزرابي والأواني واللباس والعمارة وغيرها من مفردات العناصر التراثية، لكن المفارقة التي يطرحها الفنان مصطفى الفقير في تجربته حاليا، هو أن اهتمامه بهذه العلامات والرموز هي من باب ما هو تشخيصي وليس ما هو تجريدي، من زاوية مخيالية تمتح من متخيل اللاشعور الجمعي، تبعا لمعتقدات أسطورية متوارثة عن المراحل الاستيطانية التي عرفها المغرب منذ أزمنة تليدة، وما مر به المغرب من حضارات عديدة ومختلفة من الشرق والبحر الأبيض المتوسط، واندماجها وانصهارها بعمق حضارات متجدرة في التربة الإفريقية، مما أفرز تجربة خصبة متنوعة عند مصطفى الفقير تدعو إلى اجتهادات كبرى وعميقة للوصول إلى خبايا وأسرار تفكيك دلالاتها الرمزية سيميائيا وأنتربولوجيا واجتماعيا.
إن ما ميز عمل الفنان مصطفى الفقير، هو اشتغاله على التشخيص والتجريد في نفس الآن، برصده لجل الأشكال التشخيصية، كالعيون والأيادي والوجوه… مع إدراج أشكال كرافيكية انسيابية وأخرى هندسية، كالمربعات والدوائر والمثلثات والنقاط والخطوط… ضمن نسق تكوين تم تركيبه من جديد بعد هدمه، بنظرة ورؤية شمولية تحتوي على كل التوازنات الجمالية، مما جعل من تجربته مفتوحة على كل التأويلات الممكنة، سواء من الزاوية المحلية المغربية أو الإفريقية أو الكونية.
وختاما، لا يمكن إلا أن نشير إلى عنصرين هامين كانا بمثابة محورين لهذه التجربة الفريدة في صياغة بنائها، وهما السند Support والملون Palette حيث أدرك الفنان مصطفى الفقير أهمية الاشتغال على الجلد، واستدرك ما بدأه الفنان الراحل فريد بلكاهية، ليضمن استمرارية التخلص من التبعية والهيمنة المفاهيمية التي تضمرها المواد المستوردة من الغرب، مع استعمال لمواد وأصباغ اعتمدت في مكوناتها على الخضاب بتدرجاتها اللونية والحناء والزعفران وغيرها من المواد الطبيعية، لتحافظ في الأخير هذه التجربة على عذريتها، باحتفالية جمالية جمعت بين تعدد الألوان بقوة بهائها وعنفوانها وإشعاعها..، وبين اختزالية لونية ركزت على ثنائية مونوكرومية حددها الفنان الفقير في الأسود والرمادي بتدرجاتهما اللانهائية.


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 17/01/2023