قراءة في كتاب «الهوية غير المكتملة» لأدونيس
صدر عن «بدايات « للطباعة والنشر والتوزيع بسورية، كتاب «الهوية غير المكتملة « في القطع المتوسط، للشاعر العربي والمفكر المختلف والاستثنائي أدونيس، بالتعاون مع الروائية الفرنسية شانتال شواف وعربه عن الفرنسية حسن عودة.
هناك دوما ضوء خلاق يشع من النص الأدونيسي، شعرا وفكرا ..يطاردك ويترصدك في سفرك الإشكالي صحبة أبجديته القلقة الشاهرة لعصيانها المدني والعلماني ضد الآلة الجهنمية للمؤسسة، سواء أكانت سياسية، دينية، أو معرفية، شرقية أو غربية . تلك حرب كونية يعلنها الشاعر المفكر لتقويض دولة الألفية الثالثة في سيرورة قتل الأب والشيخ وتحطيم القبيلة والطائفة والمقدس وربما «استئصال العائلة»، وتأسيس «مجتمع الأصدقاء»، واستشراف انتصار الجسد والشعر، وانتصار النور والضوء.
كتاب «الهوية غير المكتملة « يتخذ شكل مجالسة وحديث ذي شجون وعمق مع المبدعة الفرنسية شانتال شواف، تتقد في ثناياه قضايا الإبداع، الدين، السياسة والجنس. وقبل انقذافك في هذه العوالم الجوهرية، تنتصب أمامك عتبات/مؤديات النص المتوهجة.
« الهوية غير المكتملة «تبدو لي كعتبة أشد التهابا، فاجعة وصاعقة، إعلان عن الهوية المبتورة، الكسيحة، أو ربما عن تشوه في الانطولوجيا العربية سياسيا، أنتربولوجيا، أو جسديا أيضا.
لوحة الغلاف، عتبة لونية أشد إشراقا وبذخا، أبدعها المختبر الأدونيسي حيث النسب توأمي بين الشعر والتشكيل، وكأن لقاءهما الوجودي كان « عيدا « يشبه إلى حد عميق لقاءات أدونيس وشفيق عبود، المنسحب بهدوء من هذا الوجود الأشد رداءة وزيفا.
لوحة الغلاف تأسيس لنمط إبداعي جديد وبوح مغاير، حيث الجسد الشعري يحف البصمة اللونية كسرادق أبجدي يحتفي بكل هذا الضياء القادم من «تاريخ العين واليد» وكأن اللون يتقلد في جيده الأيقونة الشعرية كاشفا عن خلطة جمالية صميمية.
ومضة الكاتبة الفرنسية شانتال شواف، عتبة أخرى ملتهبة ومنغرسة على مشارف «الهوية غير المكتملة»، تحملك إلى حيث طقس المقهى الثقافي، هاهنا في «الفلور» والدوماغو» ، مرت عصابات احترفت ترويج اللوحة والقصيدة والبيانات الفلسفية العابرة للقارات، الآن هنا يتوهج «صوت « أدونيس كي يخلخل الكيان، والصنمية والطابوهات المتناسلة و»يحررك « من خسوف الهوية وجحيمها، ممتطيا مجرة الفكر الكونية .
النص الأدونيسي مضاء بشرارات صوفية غير أنها « لا دينية «، هو ذا انقلاب درامي في تاريخ الفكر الصوفي وتأسيس لصوفية كونية غير لاهوتية، أو ربما لصوفية مدنية علمانية ، أرى أنها قلب للنظام الكوني السائد حيث يستحيل فيها الإنسان إلى «مركز للكون «. إنها ثورة حقيقية ضد الجهاز المفاهيمي والمعرفي القابع في ذواتنا كصنم آيل « للأفول «. هذا إعلان عن انبثاق صوفية الألفية الثالثة ، صوفية الحداثة البعدية تتعايش مع الأنترنيت وتكنولوجيا المعلومات.
في هويتننا «غير المكتملة» يهدم أدونيس أوثان الصوفية الدينية.. صوفية الفقهاء، أكثر رجال الدين بعدا عن الله ، إذ أن الصوفية الدينية تبعدنا عن الله ، أنطولوجيا وجوهريا، بدل أن تقربنا إليه، حيث تغيّب الله وتحجب صورته، كمن يؤسس تاريخيا ودينيا للغياب الفادح للإله، ويقحم علاقة الكائن بالله «كجوهر للكون « في جحيم الانفصام.
القراءة المعتمة للنص المقدس تشوه صورة الله كما الكتب المقدسة حين تنفي «التجلي» الإلهي، والعقل حينما يعجز عن إدراك «اللامرئي» و»اللامحدود». بينما الله في صوفية الألفية الثالثة، «لامتناه»، منفتح ومتجلٍّ في كل شيء، يصير تحولا لا ثباتا، وأشد عمقا من أن تدركه القراءة /الوظيفة التي يحترفها الكاهن والفقيه والأصولي والحاكم والأكاديمي .. وبصيغة أشمل المؤسسة التي تشرعن الاستبداد وتعيد إنتاجه. بيد أن الصوفية الأدونيسية تجذر العلاقة مع الله ،في انتماء علني إلى «وحدة الوجود « بروح الألفية الثالثة، و»ترفع الحجاب» عن الله، والحيف عن ابن عربي الما بعد حداثي وتحضنه في احتفاء وبهاء .
على ضوء هذا، بدا لي أن «الهوية غير المكتملة « دعوة صاخبة إلى إعادة الرؤية في علاقتنا مع الله، وانبجاس «روحية الألفية الثالثة « تخترق الأدب والشعر والجماليات وربما الدين ذاته والكون برمته .
بدا جليا في المنظومات الدينية أن العنف يستحيل إلى سلوك « مقدس» تدميري للإنسان والكينونة إلى حد الإلغاء الانطولوجي للآخر المختلف دينه، وإلهه ،أو فكره من منطلق « التصور « المشوه حول الله، حيث يتم إعادة إنتاج هذا السلوك الماغولي وشرعنته على الأرض تاريخيا في قوالب وأشكال متناسلة « دفاعا عن الله» .
يقول ادونيس: «ويزعم كل دين بأن إلهه هو الأفضل. كما يشن كل دين الحرب دفاعا عن إلهه.غير أن الله قادر وحده كما أعتقد على الدفاع عن نفسه.لذا فهو ليس بحاجة إلى جنود ودبابات، وحاجاته أقل أيضا إلى انتحاريين وفدائيين للدفاع عن نفسه».
أرى على ضوء ذلك أن العنف منغرس ومكرس جذريا في الدين كعنف مؤسسي منظوماتي أدلوجي، غير أن هذا النمط من العنف يتجلى كونيا وتاريخيا ويتجذر اجتماعيا وسياسيا .
كتاب « الهوية غير المكتملة « فوران نقدي تفكيكي، لطالما اعتبر نقدا للمؤسسة ، «نقد» كل ما هو ممأسس، وهو ما يشبه – كما أعتقد – نقد ميشيل فوكو للمؤسسات في الغرب ، مع اختلاف في الخصوصية المجتمعية والفكرية. أولى تمظهرات هذا النقد الادونيسي الجارف، هدمه لمؤسسة الأب بما أنها استنساخ لصورة الإله، وهي بهذا المعنى، إلغاء للتعدد والاختلاف واغتيال « للأنوثة «.
وفي هذا السياق يندرج النظام السياسي العربي الاستبدادي «الكلياني « كمؤسسة أبوية مطلقة، الحكام داخلها مجرد آلهة وطنية بامتياز وبأحجام متباينة غير أنها تذعن «للأبوية الأمريكية» كإله فيدرالي وكوني عولمي في الوقت ذاته ، في ظل سطوة « الشر المحض» على الإنسان والأشياء .
يفكك أدونيس المعمارية الداخلية العربية «لتقويض» الأبوية والعائلة المتآكلة للمضي نحو « مجتمع ديمقراطي مدني « ظل مغيبا ومجهولا. فيما يتجلى الغرب محتضنا ومحصنا وراعيا لأعداء الديمقراطية من الظلاميين حتى يظل المجتمع العربي، منغمسا في « رجعيته «خارج الوجود و»التاريخ»، فيما تبدو لبنان جغرافية « طائفية قبلية « حيث اللامواطن، أو ربما حيث اللاوطن.