«تضاريس» الشاعر السعودي محمد الثبيتي تحشد الموت وتتعرى في رماله

تمهيد
حُقً لقلم حداثي ثائر، أن ينصت عميقا في تخوم موسيقى الشعر، وأن يتصدر قائمة النهضة الشعرية الحداثية العربية دون منازع، وأن يرقد في تربة المثوى الأبدي قرير النفس، نافذا بأثره وفرادته، بعد أن استأثر بمنجزه الفاخر، في علياء الإبداع والترقي الفكري، على إثر تجربة عميقة في طريق بحثه الحثيث عن موطن جمالي راق للكتابة بلغة مختلفة، واتساقية إشراقية لمجمل مدلولات المكنون، معجما وبلاغة وانفعالات ووثبات مجازية ومعاني جديرة بالتأمل والاقتفاء.
لدي ما يكفي من الدلائل والقرائن، لتوصيف واستدرار المزيد من التآويل والاعتبارات الأخرى، من أجل تقديم الشاعر السعودي الكبير الراحل محمد بن عواض الثبيتي. ليس لأنه أحد أهم الأصوات الشعرية الحداثية في الخليج العربي والوطن العربي، ولكن، لأنه ينتمي إلى طفرة إلهامية وجمالية مؤسسة، استردت فيها القصيدة العربية، صوتها الهارب، وجسدها المتهاوي، ونضارتها المهضومة.
ولا يقال دائما ما ينبغي قوله، فالمجاز كما يزعم ابن جني، إذا كثر لحق بالحقيقة. وأنا هنا لا أريد حتى المجازفة بفعل المجاز، لأن المقام أدق وأرق بما هو أبلغ وأعمق. فكل الأمداء المرتجاة بالمجازات والاستعارات، تنحني تصافيا وتوهجا، عند الوقوف على مدلج ديوان «التضاريس»، مقتفيا آثار السؤال الأنطولوجي وخلفياته الفلسفية والفكرية، بما هو حلم وارتهان شعري مغاير، يتسق مع رؤى جديدة لمفاهيم تكرست عبر بنى وأنساق متداولة، اغتابت الفهوم الثاوية لمعاني ثنائية الموت والحياة، عوالم الذات الحزينة، ومساربها القصية في زحمة العبث والأهواء.
في هذا الأفق المشحون بنياط الوجع والاعتراك، أحاول استقصاء ديوان (التضاريس) للشاعر الثبيتي، في تقاطعات بنياتها وأبنيتها السردية، مفارقاتها وتناقضاتها في شعرية الشاعر، وجنوحها نحو خلق أشكال جديدة، لرمزية «الموت « و»الرمال»، وأبعاد ذلك كله، في نصوص مفعمة بالحيوية وامتلاك أدوات دافعة وملتحدة، تعمد إلى تطويع الصور الذهنية، التي تستدعيها الصيغ والأصوات الشعرية المكنونة، والتي هي بمثابة المحتوى الداخلي الذي يربط النص بالمضمون، والقلب بالقالب.

تضاريس الموت
يتسع مدلول الديوان الموسوم ب»تضاريس» إلى أكثر من معنى. فالتضاريس، كأرض وجغرافيا وفضاء شاسع للتأويل الأنطولوجي، يباهي مختلف تشكلات الحياة الإنسانية، تشي بوجود مرتفعات ومنخفضات في خريطة تضاريسها السطحية والعميقة. والانوجاد بإزاء هذه المساحة الثاوية والصعبة، يحيل إلى عقبات وإكراهات وتناقضات ومفارقات، تتصل بتقلبات الكائن وانتظاراته. كما هو الحال بالنسبة ل»تضاريس الجو» المرتبطة بدرجات الحرارة والرطوبة وغيرها من صعود وهبوط، أو حتى تضاريس الوجه، التي تخفي في طيات ملامحها شقوق الزمن وتجاعيده العميقة.
وإذا كانت التضاريس تتدرج عند الشاعر لتكون صيرورة إبدالية منيعة، تراوح بين الأنا والآخر، تجسد منحنيين أساسيين ينهضان برؤية الشاعر تجاه العالم الغيبي، وتكسيره لنموذجيته المجازية لدى باقي الشعراء، حيث تتكتل الصور الشعرية، وتتفاعل لتشكل أسلوبا وتناصا أسطوريا، فإن متلاحقات هذه الصيرورة سرعان ما تجد نوابضها وحدودها في مختلف مكونات اللغة التخيلية المستعملة، في خاصية شعرية استثنائية، تمتح من النسيج الثقافي والفكري للشاعر، وتجربته في أتون المعجم الشعري العربي بكل تلاوينه وأصنافه.

الرمال حركة
في اتجاه الموت
لا يكاد الشاعر محمد الثبيتي ينتهي من أبلاج ديوانه «موقف الرمال»، الذي استفتحه بقصيدة مبدؤها الموت، قائلا:
سَتَمُوتُ النُّسُورُ التي وَشَمَتْ دَمَكَ الطفلَ يوماً
وأنتَ الذي في عروقِ الثرى
نخلةٌ لا تَمُوتْ
مَرْحَباً سَيَّدَ البِيدِ (ص9 )
حتى انسربت من بين يديه مساور الرمل إلى التضاريس، كأنها وحدة كتلية لا تنتهي. يسحبها من خاصتها إلى بيدائه اللانهائية، استمرارا على نفس الوطء، وارتقاء إلى كل ما يبعث على التساؤل والاستدراج الفكري.
فالرمل انعطافة تأويلية تتيح للقارئ التردد بين فتات الصخر وبحر الشعر الأشهر حديثا في قبيلة وادي عبقر. ومن يتلقف زمام فاتحة الديوان «ترتيلة البدء»، سيدرك حقيقة، ما «بين عيني وبين السبت طقس ومدينة» (ص59)، التي هي «أولى القراءات»، التي تنبئنا عن «الرعد الذي يعري جسد الموت» و»يستثني تضاريس الخصوبة».
يستعذب الشاعر أن يحاور لغة أخرى، غير لغة التخاطب العادية، فينفعل ويتفاعل مع «الصمت» كدليل على «التقطر»، و»تمدد الماء» كمعترك للاشتهاء، والإسراف في الحزن والتأوه، كوجاء لتأمل عناصر الحياة «ملح ورماد وتراب وماء والنار والطين»، ونفس لا تتربص بغير المستحيل، كي تبرى من «الأصلاب والجذور والاشتهاءات..».
وإذ يمتد بنا هذا التشوف إلى أعلى درجات التجلي، يحول الشاعر هذا الامتداد الشبيه بالعزف على الجراح، إلى منعرج يخبط في وجع الحتف، كأي مواراة، أو طاعون يخصف بأمل اللقيا، ويحوز الخرافة المتماثلة إلى البياض.
يا غراباً ينبش النارَ
يُواري عورة الطينِ وأعراس الذبابْ
حيث تمتدُّ جذور الماءِ
تمتدُّ شرايين الطيورِ الحمرِ،
تسري مهجة الطاعون
يشتدُّ المخاضْ
يا دماً يدخل أبراج الفتوحاتِ
وصدراً ينبت الأقمارَ والخبز الخرافيَّ
وشاماتِ البياض. (ص61)
وفصول الرمال مستمرة أيضا، في قصيدة «القرين»، حيث التجسد بالإقامة على «شغف الزوبعة»، إلى درجة استسلام «أنا الشاعر»، وغوايتها، وإلغاء وجودها المكاني، فتصير المقامرة الجرح أهون من القرع على بوابة الاحتمال:
يخامرني وجهه كلّ يومٍ
فألغي مكاني وأمضي مَعَهْ
أفاتحه بدمي المستفيقِ
فيذرفُ من مُقلتي أَدمُعَهْ
وأُغْمدُ في رئتيه السؤالَ
فيرفعُ عن شفتي إصبعَهْ
أما زلتَ تتلو فصول الرمالِ؟
أقامر بالجرحِ ..
أقرعُ بوّابةَ الاحتمالِ
أأشعلتَ فاصلة الارتيابْ؟
دمي مشرع للتحوّل والانتصابْ (ص 63/64)
هناك السؤال السيزيفي يتكرر مرات، ويتداعى تحت وميض الخوف والتوجس، فيفطن معه حجم انتكاسة النفس الشاعرة، وهي تحاول ترميم آثارها على الآتي. أي سؤال ذاك، الذي يتوطن في صرخات القصيدة، مندلقة كيحموم تتلفظه كائنات هلامية، فيتعرى السؤال إلى كابوس، أو شكل شبحي خارج عن الرؤية. وفي ذلك، ينشغل الرميثي باستبصار زمنه (العاقر)، قريته التي أضحت (أرملة)، و(باب المدينة) الذي يتخفى في (كفين):
يأتي الجواب منهكا، طافيا على صرخات، استعارات متوغلة في صدر منكوس، وتعبس مؤلم يجهد أوتار الصدر، ويلقي به في يم الحسرة والضياع:
لدى سادن الوقت
تشرق بي جرعة الماء…
تجنح بي طرقات الوباء…
تلاحقني تمتمات البسوسْ
أرى بين صدري وبين صراط الشهادة
شمساً مراهقةً
وسماءً مرابطةً ويميناً غموسْ (ص65)
وفي إسار هذه الوقيعة، وبينما نبحث نحن كقراء، مع ما تكتنزه أرواء الشاعر، وما تختزله أمداء فلسفته، وروحها العاتية المبثوثة في «تضاريس» الديوان، يجنح بنا المقيم في الغابة الكأداء، إلى «لغة حجرية» بطعم آخر، سردية تنشد وهادها من قلب «المغني». قصيدة تختال كأباريق السيليون، متنقلة بين الحس والحدس، المعنى الكامن بين الرائي والمرئي. وهي علامة نابغة، تشي بإثراء القوالب النصية، وإخصابها بمزيد من التخاطب والتبادل.
وهنا تتبدى قدرة الشاعر الثبيتي على تشميل هذه الشعرية المتجاورة، بالانعقاد الفعلي لتبدلاتها وتحولاتها وإيقاعاتها، لتصير أكثر امتلاء وأبلغ مقاما في الاختباء خلف «البحر الطويل» أو «بوابتان: الخمر والزنجبيل». فلا تمييز ولا تمايز، ولا تقرين ولا تقارن، سوى ما تستوعبه رغبة الأنا في «طريق المهاجر» الذي يحتد مع «صوت المغني»، و»يكبل قامة الريح..»، فيصير بعد ذلك «كتابا» أو «قبرا قديما»..
ومن ثمة، فاللغات التي تحيا، هي المورقة دوما في منتجعاتها الصيرورية، المبتكرة بالاستمرار «لطفولتها» شكلا. ولن يكون الجري وراء ذلك متعبا، على العكس:
ابتكر للطفولة عرسا
تعلق فيه التمائم.
واللعب الورقية … والأغنيات (ص70)

دربان على الشوك:
الشعر والصعلكة
كثيرا ما اقترنت أحابيل الشاعر وأخاييله بالتسكع والتشرد والصعلكة. حتى قيل إن صَعاليك شعراء العرب: لصُوصُهم وفُتَّاكُهم.
وقال الفرزدق في ذلك:
الله يَعْلَمُ، وَالأقْوَامُ قَدْ عَلِموا،… أنّ الصّعاليكَ أمسَى جَدُّهمْ عَثَرَا
وقول جرير:
هُوَ الذّائِدُ الحَامي الحَقيقَة َ بالقَنَا … و في المحل زادُ المرملين الصعالك
بيد أن صعلكة الشاعر هنا، فيها استغراق وتلامس للعزلة. «قصيدة «الصعلوك» انتماء إلى الفقدان، واستعادة لذات مفقودة. مدارها «جوع وإثخان ورهق وانتظارية معتمة». وسياقها الطبيعي، ملاذ الفروسية في زمن التيه. نفسها أعباء «الصعلوك» ومحمولاته المادية والرمزية «الخيل والليل والمعركة» و»الأوراق: التي تأسر عقل حاملها، فتملي عليه ما يقود جسده إلى الهزيمة؟.
مَنْ يُقاسمني الجوعَ والشِّعرَ والصَّعْلَكَةْ
مَنْ يُقاسمني نشوةَ التّهْلكةْ؟
أنتَ أسطورةٌ أثخنتْهَا المجاعاتُ
قُلْ لِي:
متى تثخن الخيل والليل والمَعْرَكَةْ
يفيقُ منَ الجوع ظُهراً
ويبتاعُ شيئاً منَ الخبز والتمر والماءِ
والعنبِ الرازقيِّ الذي جاءَ مُقتحماً
مَوسِمَهْ
مَنْ يُعلِّمُنِي لعبة مُبْهَمَةْ
تَرَجَّلْ عنِ الجَدْبِ واحْسِبْ خطاياهُ
واسْفكْ دَمَهْ .. (ص71)
كان صدى ذلك التمزق المحيق بتلابيب الشاعر، يخترق أصقاع حدوسه وانثيالاته، فيغدو «الصدى» «ماء يتخثر في رئة النهر» ، كما هو حال «النهر» الذي «يوشك أن يتقيأ أجوبة الماء». فلا ملاذ سوى الهروب إلى الموت مرة أخرى:
هذا التراب يمزق وجهي
وهذا النخيل يمد إلي يده .. (ص75)
لا بديل عن استرداد فجر التحدي والتماعة الصحوة، سوى العوم في نتوء الصعلكة، على ظهر فرس رؤوم وتحت لافحة سماء زاحفة.
وتلك قصة «الفرس»، التي تناصب الشاعر «غويات الرمال»، والتي «تكسر حدود القيظ» وتتجه للشمال.
هو يستغيثها، ويحابيها. يتردد بين جنباتها، لعلها تعود إلى أحضانه. متلمسا «قبلة» بعد أن أرقى «عفتها بفاتحة كتاب»:
اسرجتها بالحلم والشهواتِ
والصبر الجميلْ
عانقتها..
فامتدَّ صدري ساحلاً مراً
تنوء به تواريخ النخيلْ
ناجيتها:
صدئت لياليك القديمة فاحرقي خَبَثَ النحاسِ
وأشرعي زمن الصهيلْ. (ص 78)
وفي سراب هذ الشوق الطافق، يهتدي الشاعر إلى تضمين افتتانه ببيداء البحر عضو صحراء «الصعلكة»، كبنية منذورة للشعر والوجد واحتواء العالم. فماء البحر إن قام «يأت يوجهك النامي على شفق البلاد»:
يأتي طليقا
موثقا بالريح والريحان والصوت المدجج
بالجياد ..
إن قام البحر
صاغ الرمل بين مقاطع الجوزاء
مهرا غيطموسا فاتحا
من قمة الأعراف ممتد
إلى ذات العماد (ص 79)

خاتمة:
يستحث الشاعر الثبيتي قصيدته، في تضاريس موغلة في المجاز الفلسفي. فيجلوها ملتاعة كبريق ملفوف في نهر من البلاغة والسحر لا يضاهيان. اختزل فيها إمتاعا وشغبا وأسئلة حارقة، أضاءت جوانب مثيرة من رؤية الشاعر للحياة ونقيضها، الألم والحسرة والعذابات الإنسانية.
سافر بنا شاعر التضاريس، إلى أصقاع النفس ودهاليزها. واستثار أكنة الغور وأوهاد الفيافي. واجتلى متحلقا على نذور القول وأحسنه، متخفيا خلف أنواء من الغياب والسيرورة، دون أن يجد القارئ النبيه صعوبة في الوقوف على روح القصيدة وإيتيقاها الهادرة المتيقظة.
كان سفرا ينتشي به الفؤاد كما الوجدان، كاشف عن وجه مشرق للثبيتي، تعطرت به ذخائر مدسوسة بعناية فائقة، لا تعانقها سوى أجنحة طيور الحرية. وهو ما استوثق خطاه بأثر واسع وممتد، في آخر نص له في الديوان، أسماه «تغريبة القوافل والمطر»، يقول في أوله:
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
صُبَّ لنَا وطناً فِي الكُؤُوسْ
يُدِيرُ الرُّؤُوسْ
وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
واسْفَحْ علَى قِلَلِ القَومِ قَهْوتَكَ المُرَّةَ
المُسْتَطَابَةْ(ص97)
كأنه صرح من خيال، ذلك الذي يدير مفلق الصبح، ويطفئ لغة المدلجين، ويمر خفافا على الرمل، مثلما كانت البداية، ضراوة التضاريس، في موثق الرمل، وعلى جناح الموت الغامض.

ـ ديوان محمد الثبيتي (الأعمال الكاملة) النادي الأدبي بحائل السعودية ط1 / 2013


الكاتب : د.مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

  

بتاريخ : 30/05/2025