تعدد الأصوات في رواية «ليلة مع رباب» (سيرة سيف الرواي) لفاتحة مرشيد

تعدُّ رواية «ليلة مع رباب» الإصدار الثامن للروائية المغربية فاتحة مرشيد في صنف الرواية، والصادرة عن «المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع» سنة 2025. يندرج هذا العملُ ضمن الرواية المعاصرة التي ترمي إلى تفكيك مركزية الصوت الواحد، وتؤسس لفضاء سردي يحتفي بتعدد الأصوات وتناوب الذوات، من خلال بنية سردية متشابكة تنفتح على الذاكرة، الخيال، الفكر والتجربة الإنسانية في أبعادها المتعددة.
يُقصد بمفهوم تعدد الأصوات»Polyphony» ـ وفقًا لما طرحه الناقد الروسي ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtin)، وجود أصوات متعددة مستقلة ذات وجهات نظر مختلفة داخل النص الأدبي، تتفاعل وتتقاطع دون أن يهيمن عليها صوت واحد. في هذا السياق، تُسائِلُ الكاتبةُ فاتحة مرشيد في هذا العمل مفاهيم الهوية، الحب، الشيخوخة، والكتابة، وذلك من خلال صوت راوٍ رئيسي يُدعى «سيف»، ينخرط في كتابةِ سيرتِه الذاتيةِ، لكنه لا يكتب منعزلًا، بل في حوار دائم مع أصوات أخرى تؤثث المتنَ الروائيَّ وتغنيه.

1 – سيف بوصفه ساردًا ومسرودًا له.

يتموقع «سيف» في قلبِ الروايةِ باعتباره السارد المركزيّ، لكنه لا يحتكر الحقيقةَ السرديةَ، بل ينفتح على تجاربَ وأصوات أخرى. كتابته لسيرته لا تتم في شكل خطي تقريري، بل تُروى على شكل اعترافات داخلية، استرجاعات، محاورات، وتخيلات، مما يجعل صوته متعدد الطبقات. إنه لا يحكي فقط ما عاشه، بل ما أحس به، وما لم يقدر على عيشه، وما كان يتمناه، فيغدو صوته صوتًا للتساؤل أكثر منه صوتًا للتيقن.
تجسيدًا لذلك، يقول سيف في بداية سرد سيرته: «لا أجد منفعة في تذكر الماضي، لأنني كلما فعلت بدا لي كحياة شخص آخر غيري، حياة لا تغريني بعيشها ولا بالانتماء إليها. ومع ذلك، خمنت أنكم قد تجدون فيه رسالة مهمة من القدر وإن كنت أنا نفسي لا أجد غير سخرية مبتذلة من قدر يسخر منا جميعًا. ليكن، فأنا الراوي بدون منازع، وليس لدي من جديد أرويه لكم الآن غير قصتي، بعد أن تعطل لدي محرك الخيال لفرط ما أبدعت في تضليلكم»(ص: 09). ويعالج موضوع الشيخوخة وما تفرضه من تراجع في الحماس والرغبة: «إنها الشيخوخة يا سادة، تمنحك أعذاراً ومبررات، فتبدأ في السماح لنفسك بخفض مستوى المتطلبات والتطلعات والرغبات، لأنه من المريح أن تتخلى عن التشبث بما مصيره التخلي عنك… سمحت للكثيرين ممن لا يستحقون، بالمكوث طويلا في حياتي والتحكم بها، والآن وقد أصبحت حياتي لا تغري أحداً، تحررت. أخيراً، سمحت لذاك الذي كان من صنعهم أن يرحل معهم، واستعدت ماهية ذاتي»(ص: 10).
بهذا الشكل، تتجلى طبقاتُ صوت سيف السردي المتعددة، حيث يجمع بين سرد التجربة الشخصية والاعتراف بالضعف الإنساني والتساؤل الوجودي، مما يعزز تعدد الأصوات داخل النص.

2 – هشومة بوصفها صوتًا سرديًا مميزًا

تُمثِّلُ شخصية هشومة صوتًا سرديًا ثانويًا يثري بنية الرواية ويكسر هيمنة السارد المركزي. رغم أنها كانت تعاني مثل جل نساء جيلها من الأمية، فقد كانت تمتلك ثقافة شعبية غنية اكتسبتها من تجربتها في الحياة واحتكاكها بجميع طبقات المجتمع من القاع إلى القمة. كان لسانُها موهبتها الكبرى، ينطق بكلام مرصَّعٍ بالأمثالِ الشعبيةِ المغربيةِ، وهو ما يشير إلى ثراء صوتها وتنوعه.
يقول الراوي سيف عنها: «كنتُ أنا المولع بالقول البديع، أدون في دفتري كل الأمثال الشعبية التي تنطق بها، قبل أن تصبح جزءًا مهما من لغتي وقاموسي.. وهذا ما ستلاحظونه بأنفسكم» (ص:27).
تُقدِّم الرواية وصفًا دقيقًا لشخصية هشومة، يعكس عمقها وتعدد أدوارها الاجتماعية:
«كانت تمتلك ابتسامة دائمة ترصعها أسنان أمامية من ذهب ووشم طويل على الذقن يعرف بـ›السيالة›، وعينين سوداويتين ثاقبتين يزيدهما الكحل اتساعًا، وتجاعيد بعدد وعمق تجاربها في الحياة»(ص:26).
بعد طلاقها من زوجها، أصبح لها دور اجتماعي معقد ومتعدد، إذ كانت، إلى جانب عملها الرسمي كـ»كسالة» في الحمام البلدي، تتقلد أدواراً أخرى حسب الظروف، منها طباخة أعراس، مساعدة في البيوت، مولدة في أحيان أخرى، وحتى سمسارة للمشعوذين والسحرة، وقوادة لزبائن من ذوي النفوذ. هذا التنوع المهني والاجتماعي يعكس تعدد طبقات المجتمع الذي تنتمي إليه هشومة، ويمنح الرواية أبعادًا اجتماعية وإنسانية متعددة تعكس وجهات نظر مختلفة، بعيدًا عن أحادية الصوت السردي.
من خلال صوت هشومة وتجاربها المتعددة، ينجح النصُّ في تفكيكِ مركزيةِ الصوت الواحد، ليبني فضاءً سرديًا متعدد الأصوات يعكس تنوع الواقع الإنساني وتعقيداته.

3 – رباب كصوت أنثوي طبقي متحرر

تُشكِّل شخصية رباب أحد أهم الأصوات السردية في الرواية، ليس فقط من حيث جمالها الفتّان الذي يشد السارد، بل من حيث موقعها الطبقي ورؤيتها المتحررة للعالم. إنها تمثل صوت المرأة الثرية، المتعلمة، التي تتحدث بجرأة وتفصح عن رغباتها وطموحاتها دون خوف أو خجل. فالراوي، القادم من الهامش، يُفاجَأُ عند دخوله الفيلا لأول مرة بما يراه من مظاهر الرفاهية والترف:
«وصلت فيلا السيدة الثرية، فاستقبلتني الخادمةُ وقادتني إلى غرفة نوم فاخرة، تضم سريرًا يسع أسرة بأكملها…»(ص: 37).
هذا الاستهلال يكشف بوضوح انتماء رباب إلى الطبقة البرجوازية، إذ تعيشُ في فيلا ضخمة، وتُخدم من قبل خادمة خاصة، ما يؤسِّسُ لتوتر طبقي بين سيف ورباب، يُقابل بتوتر جمالي/ جنسي حين تظهر له وهي ترتدي: «قميص نوم يُظهر أكثر مما يُخفي»(ص:37).
رباب ليست فقط غنية ماديًا، بل تتمتع أيضًا بثقة ثقافية، ويتجلى ذلك في إجابتها الفلسفية على تعليقه عن اسمها: «لم يكن حلمي يقتصر على أن أكون آلة لعازف مهما كانت مهارته، بل سمفونية تتناغم فيها آلات وتتوحد فيها مواهب العازفين، وأكون فيها المايسترو»(ص:39).
ضمن هذا الإطار، تسعى رباب إلى أن تكون فاعلة في حياتها لا مفعولًا بها، قائدة لا تابعة، وهو ما يبرز وعيًا نسويًا طبقيًا، يزاوج بين الاستقلال المالي والطموح الشخصي.
إنَّ صوتَ رباب، بهذا المعنى، لا يُعبِّر فقط عن الأنوثة المستقلة، بل أيضًا عن تمثيل الطبقة الاجتماعية العليا التي تمتلك أدوات السيطرة: المال، الجمال، اللغة، والقدرة على إدارة العلاقات.
سيف، الطالب الفقير الذي يمتهن الرقية، يجد نفسَه في موقعٍ هشٍّ أمامها، فتختلط الرغبةُ بالإعجابِ، والتوترُ بالرغبةِ في إثباتِ الذات. يقول:»ما عرفتُ قبلاً معنى انتظار موعد بهذا الشغف»(ص:38).
تظهر رباب بوصفها مستلقية في أول لقاء، إلا أن ذلك لا يعني خضوعًا، بل هيمنتها تتجلى لاحقًا حين تتحكم بزمام الحوار، وتقترح، وتختبر قدراته، بل وتُغريه لتجاوز موقعه الوظيفي الرمزي كـ»فقيه».
بهذا، تشكّل رباب صوتًا طبقيًا أنثويًا حرًا، يشتبك مع الصوتِ السرديِّ لسيف، ويقلب مواضعَ السلطةِ بين الراوي والمروي عليه، لتغدو الرواية فضاءً للتفاوض بين الطبقات، والأجناس، والتصورات.

4 – ياسمين: صوت نسوي يمثل الطبقة الراقية ومأزق السعادة الزائفة

تُجسّد شخصية ياسمين نموذج المرأة المحاصَرة داخل قفص ذهبي، حيث تُختزل قيمتها في جمالها، ويُفرَض عليها أن تؤدي دور الزوجة السعيدة في المناسبات الاجتماعية الخالية من الصدق والحميمية.
يتجلّى ذلك في قول الساردة:»كانت ياسمين ترغب في شيء واحد: أن يحل الفجر لتنطفئ تفاصيل الليل ومعها التفاهة إلى حين.. لكن التفاهة لا وقت لها»(ص: 76).
وهو تعبير دقيق عن الزيف الذي تعيشه في حياتها اليومية، والذي يُفرَض عليها كامتداد لاختيارات زوجها الذي تغيّر بفعل الطموح والنجاح السريع.
فمن خلال صوت ياسمين، يرصد السردُ كيف يتحوّل الحبُّ إلى واجب اجتماعي، وكيف تُؤدي المرأة أدوارًا تُفرض عليها بحكم زواجها من «رجل مهم»، لا بحكم قناعاتها الشخصية. وهي بذلك تختلف عن هشومة التي تؤدي أدوارها بحكم الضرورة الاقتصادية، وعن رباب التي تمارس سلطتها من موقع القوة المالية. لكنّ المأساة واحدة: المرأة، في كل الطبقات، تؤدي أدوارًا مفروضة. وبذلك، تُسهم شخصية ياسمين في تعميقِ الطرح السردي الذي يُدين التفاوت الطبقي، ويكشف تلاقي المعاناة في تفاصيل مختلفة من السرد، بصوت كل شخصية.
تعود شخصيةُ «سيف» من جديد وقد حقَّق حلمَه بأن أصبح رجلَ قانونٍ ناجحٍ، لكنه في الوقتِ نفسِه يعكس واقعَ العدالةِ المعقَّدةِ والمليءِ بالمفاهيمِ الملتويةِ. فقد بدأ من شاب فقير طموح، وحظي برعاية ودعم من شخصياتٍ مؤثرةٍ مثل الأستاذ الحربي، مما ساعده على دخول عالم المحاماة واحترافها.
يقول سيف: «فبعد أن أصيب الأستاذ النقيب حسن الحربي بمرض عضال، جعله يعتمد علي أكثر فأكثر، اختارني خليفة له في مكتبه… وقال بأن الأستاذ المرحوم، الذي كان قبله، أكرمه بنفس التعامل، هو الشاب الفقير الذي لم يكن يملك سوى طموحاته، وأن الله الذي لم يرزقه بذرية، قد وضعني في طريقه ليرد الجميل»(ص: 90).
ورغم أن سيف حقَّق حلمَه وأصبح محاميًا ناجحًا، إلا أنه لا يغفل حقيقةَ أنّ النجاحَ في مهنتِه لا يعتمد فقط على الحقِّ والعدلِ، بل على القدرة على التلاعبِ بالأدلةِ والشكوكِ، حتى لو أدى ذلك إلى التشكيكِ في الحقيقةِ، حيث يؤكِّد: «أنا هنا لكسب القضية.. وذلك من خلال نشر الشكوك، وتشويه سمعة الشهود المخالفين لموكلي، وتقديم مشتبهين آخرين، والطعن في مصداقية الأدلة، إضافة إلى التعامل مع خبراء مرتشين»(ص: 93).
وهكذا، يعكس سيف من جديد صراعًا داخليًا بين تحقيق الطموحات الشخصية والواقع القانوني الذي لا يضمن بالضرورة تحقيق العدالة الحقيقية، مما يجسد جوانب من موضوع الرواية المتعلقة بالفساد، الصراع على السلطة، والتحديات التي تواجه الحقيقة في المجتمع.

5 – منار: صوت الأنثى الباحثة عن ذاتها بين فضول الصحافة وندوب الطفولة.

يُشكِّل صوتُ منار في الرواية أحد أبرز تمظهرات تعدد الأصوات النسائية التي تتقاطع فيها التجربة الذاتية بالهمّ المجتمعي، والذاكرة العاطفية بالهوية المهنية. ليست منار شخصية ثانوية تؤثث الحكي، بل تحضر بصوت متفرّد مشحون بأسئلة وجودية معلّقة، وتناقضات نفسية مفعمة بالبساطة والعمق. تقول عن مسارها المهني: «ارتطمت طويلاً بالجدار قبل أن أجد الباب… أضعت سنتين بكلية طب الأسنان قبل أن أقر باستحالة قضاء بقية عمري أمام أفواه فاغرة، أقلم سوستها وأقتلعها من جذورها… لأفهم أخيراً أن الأسنان أعضاء تافهة وعنيفة، ليست إلا آلات للمضغ والعض»(ص: 118).
بهذه اللغة المتمردة الساخرة، ترسم منار حدود رفضها للرتابة، مفضِّلةً المغامرةَ في دهاليز النفس البشرية عبر مهنة الصحافة، حيث وجدت المعنى في تحرير صفحة الحوادث، إذ تقول: «لا توجد علاقة سوى أن اهتمامي بالابتسام جعلني أهتم بسبب اختفائه عن وجوه الناس.. ومن هنا، توجهت نحو مشاكلهم بتحرير صفحة الحوادث، التي على عكس بلادة الأسنان، أشبعت فضولي النهم تجاه الجنس البشري»(ص:119).
صوت منار ليس تقنيًا فحسب، بل إنساني يطفح بالحنينِ، ويعيد إنتاجَ الذاكرةِ العاطفيةِ بصوتٍ ناضجٍ ساخرٍ، خصوصًا حين تسترجع علاقتَها بالدكتور نجيب النّقاش:
«لم تستوعب حينها، هي الفتاة الرومانسية التي تختبر الحياة بشغف وحرية، كيف يمكنه التفكير في الزواج قبل الحب»(ص: 120).
ثم تقول في لحظة كشف دلالي شديد المفارقة: «أجل، رفضته لأنه كان ملاكًا، ولا تستهوي النساء غير الشياطين»(ص: 120).
هذا الاعتراف يضعنا أمام صوت أنثوي صريح في هشاشته ووعيه، في نزقه وحنينه، صوت لا يحاول أن يبرر خياراته بل يفضح منطقه الداخلي.
حتى على مستوى السرد، يكتسبُ صوتُ منار وظيفةً سرديةً داخليةً، فهو لا يكتفي بأن يكون قناةً للمعلوماتِ، بل يُغني المتن الحكائي ويؤنسن الأحداث الجافة. وعندما سُئلت عن سبب اهتمامها بوفاة النقاش، أجابت ببساطة مواربة:
«كان زميلي بكلية طب الأسنان»(ص: 118)، لتفتح عبر هذه الجملة بابًا واسعًا للبوح والعودة إلى ماضٍ شخصي مليء بالفجوات والأسئلة.
أما ذروة حضورها فتتجلى في خطابها الذاتي عن الأم والاسم والانتماء، حيث تقول:
«أما أنا، فلم أكن يتيمة، ولا لقيطة، ولا ابنة فلان بالمعنى الصريح للكلمة… كنت منار» (ص: 130).
ثم تعزز هذا البوح بإيمانها الرمزي بدلالة الاسم: «هكذا قررت أن أكون أهلاً للاسم الذي أحمله، «منار»، مؤمنة أن الأسماء ليست مجرد كلمات نطلقها هكذا… إنها تشكل رمزاً وتعريفاً للكائن الذي يحملها» (ص: 130).
هنا يتحوَّل صوتُ منار إلى منارة رمزية داخل النص، تنير خبايا العالم عبر الحكي، وتؤكِّد حضورَ الذات النسائية بصوت يرفض أن يُختزل في دور أو وظيفة.

على سبيل الختم:

تُمثِّل روايةُ «ليلة مع رباب» تجربةً سرديةً غنيةً ومتنوعةً، حيث تتداخل فيها الأصواتُ وتتشابك القصصُ لتعكس تعدديةَ الواقعِ وتعقيداته. تنجح فاتحةُ مرشيد في بناءِ فضاءٍ سرديٍّ حيٍّ ينبض بالحياةِ، يضمُّ شخصياتٍ متعددة الطبقات والتجارب، كلٌّ منها يروي جزءًا من الحقيقة من منظوره الخاص.
بهذا التداخل، تدعو الرواية القارئ إلى التأمل في مفهوم الهوية والذاكرة والعلاقات الإنسانية، مؤكدةً أن الفهم العميق لا يأتي إلا من خلال الحوار بين الأصوات المختلفة، وليس من خلال صوت واحد مسيطر.


الكاتب : ياسين اليعكوبي

  

بتاريخ : 20/06/2025