بفعل التحوّل الحاسم في طريقة فهم العناصر الفنّيّة من خلال سياقاتها الاجتماعيّة، الّذي أحدثه علم اجتماع الفنّ، نتج نوع جديد من التنظير، الّذي يرى أنّه لا بدّ من فهم تطوّر القيم الجماليّة في أيّ عمل فنّيّ، من خلال علاقات القوّة والهيمنة؛ بالتالي برزت انشغالات سوسيولوجيّة بمفهوم الفنّ في سياقه الاجتماعيّ والسياسيّ، في محاولة لفهم عمليّة إنتاج الفنّ واستهلاكه، ضمن شبكة العلاقات المركّبة الّتي تتداخل معها.
لم يغب الفنّ عن سؤال الهيمنة والسلطة إذن، خاصّةً في ما يتعلّق بثنائيّة المنتج والمتلقّي. مع هذا القلق من علاقات السلطة الّتي تسيطر على التفاعل الفنّيّ، تبقى فكرة مركزيّة المتلقّي، أداة من أدوات اختراق هذا النمط (نسبيًّا)، إذ تنشأ معانٍ جديدة للعمل الفنّيّ عند المتلقّين تحاول تجاوز علاقات الامتياز والقوّة.
يحاول هذا المقال، في ضوء ما سبق، قراءة قدرة أعمال المخرج الفلسطينيّ إيليا سليمان على اختراق هذه العلاقة بين المنتِج والمتلقّي في العمل الفنّيّ، ومساءلة قدرة الإنتاجات الفنّيّة الّتي انشغل بها سليمان على تفكيك الامتيازات الّتي يكتسبها المنتِج، من خلال إعطاء المتلقّي الصوت الأساسيّ في العمل، منطلقًا من فهم فكرة «الإنتاج السينمائيّ» مكانًا لإنتاج معانٍ جديدة، يساهم فيها المتلقّون، ولا تقتصر على المنتجين.
الصورة للمُنْتِج والنصّ للمتلقّي
في روايته الشهيرة «كيف أصبحت غبيًّا»، يقول مارتن باج على لسان شخصيّته الرئيسيّة «يُبسّط البشر العالم باللغة»؛ إذ كان ما يقصده باج في هذا المقطع أنّ اللغة (أيّ لغة) بمحدوديّة مفاهيمها ومصطلحاتها، على اتّساعها، تحصر المعنى ضمن شروطها ووفق أطر تعبيرها، وفضاء كلماتها المحدّد مسبقًا؛ لتصبح اللغة أداة ضبط أو تبسيط بالتوازي مع كونها أداة للتعبير. ولعلّ هذا ما حاول المخرج الفلسطينيّ إيليا سليمان تجاوزه في أعماله؛ كأنّه قرّر نقل ثقل ضوابط اللغة من عاتقه إلى عاتق المتلقّي، من خلال اعتماده على الصورة والصمت أساسًا لمعظم أعماله؛ لتكون الصورة في المستوى الأوّل هي المادّة الأساسيّة في معظم العمل، بينما يصير كلام متلقّي العمل وتأويله مادّة أخرى لا تقلّ أهمّيّة عن الأولى في الإنتاج الفنّيّ.
في مشهد قصير من فيلم «الزمن الباقي»، دخل فؤاد (وهو والد إيليا سليمان) إلى منزل قريبه، حاملًا معه أحد المقاومين المصابين على كتفه، خلع الباب بقدمه، فانتقلت الكاميرا فورًا إلى طاولة السفرة المتوسّطة لغرفة المعيشة والطعام. لم يزل في مكانه مرتّبًا كأنّه بانتظار أفراد العائلة، إلّا أنّ العائلة لن تأتي أبدًا، فالمنزل فارغ. هنا، لا حاجة إلى قول أيّ شيء، هكذا رأى سليمان، أنّ الصورة كفيلة لأن تكون مادّة لعرضه هو، بينما النصّ يسرده المتلقّون.
في مشهد آخر من فيلم «إن شئت كما في السماء»، يعود إيليا سليمان من نيويورك إلى الناصرة، وأثناء عودته في المطار يقف في الطابور، منتظرًا دوره ليتجاوز البوّابة الإلكترونيّة، يمرّ الجميع من البوّابة دون أن تُصْدِر أيّ رنين، إلّا عندما يمرّ منها إيليا، في إشارة دالّة على جسد الفلسطينيّ المراقب دائمًا، يُوْقِف ضابط الأمن إيليا سليمان، ويحاول فحصه في مشهد مليء بالرمزيّة، يخطف إيليا عصا الفحص من يد الشرطيّ، ويلفّها على كامل جسده بطريقة بهلوانيّة غير منطقيّة؛ لعلّها تدلّ على تمرّس الجسد الفلسطينيّ على هذه الآلة، واعتياده عليها، وإتقانه طريقة عملها. يخيّم الصمت من بداية المشهد إلى نهايته، كأنّه يقول لنا: هاكم المشهد، اكتبوا نصّكم بأيديكم، أنا أعرض الصورة فقط، فاكتبوا ما شئتم، فالنصّ لكم، ولي الصورة.
لم تقتصر سمة الصمت على هذه الإنتاجات فقط، وإنّما طالت كلّ إنتاجات سليمان؛ ففي فيلم «يد إلهيّة» الّذي عُرِضَ عام 2002، تتنازع الجغرافيا مع الشخصيّات، ويُكْتَب التاريخ، وتُعْرَض القصص الشخصيّة والاجتماعيّة. يظهر الحبّ تارة ويختفي، تُصارِع الأرض المستعمِر ويصارعها، دون أن تتفوّه الشخصيّات بكلمة واحدة في معظم المَشاهد.
لعلّ هذا يظهر جليًّا في مشهد تدريب الجنود الإسرائيليّين على إطلاق الرصاص، إذ تكون الدمى الّتي يُتَدَرَّب عليها بملامح وكوفيّة فلسطينيّة، خلال التدريب يغطّي الغبار الكثيف الهدف عن أعين الجنود؛ ليتحوّل الغبار (الّذي يمثّل طبيعة الأرض الفلسطينيّة وجغرافيّتها) إلى شخصيّة فتاة فلسطينيّة تحاربهم بكوفيّتها، وتنتصر عليهم. هكذا تمامًا عرض سليمان المشهد دون أن يُثْقِلَه باللغة، ودون أن يأخذ على عاتقه زمام التوضيح أو أن يصادر دور المشاهد.
تمتاز أعمال سليمان، إذن، بهذه التشاركيّة بينه وبين متلقّي أعماله، يمتلك هو الصورة، وآليّات عرضها، بينما يمتلك المشاهد أو متلقّو العمل النصّ واللغة والتأويل.
الحياة بصفتها سينما
هذه التشاركيّة بين المُنْتِج والمتلقّي، الّتي تبنّاها سليمان في أعماله، جعلته ممثّلًا صامتًا تمامًا، فمع أنّه أدّى دور البطولة في بعض الأعمال، إلّا أنّه لم يتفوّه بكلمة واحدة إلّا بثلاث كلمات «الناصرة، أنا فلسطينيّ» في فيلم «إن شئت كما في السماء»، كأنّه يقول إنّني لا أريد، بصفتي منتجًا للفيلم وممثّلًا فيه أن أعرض أيّ سرديّة، أنا أعرض القصص اليوميّة للناس، وهذه القصص هي مَنْ تعرض السرديّات، الحياة اليوميّة للفلسطينيّين هي سرديّتهم وصوتهم. وهذا ما وضّحه سليمان في مقابلةٍ معه قائلًا: «أبدًا أنا ما بطرح القضيّة الفلسطينيّة، أنا بعيش حالات شخصيّة وحالات اجتماعيّة، الحالة الفلسطينيّة موجودة أصلًا، والسينما تُطْرَح من قِبَل القضيّة الفلسطينيّة، لا القضيّة الفلسطينيّة تُطْرَح من خلال السينما».
لم يخطئ سليمان في وصفه، ولم يبالغ في ادّعائه؛ إذ امتازت أعماله في مجملها باستخدام أسماء حقيقيّة، وحكايات مستقاة من الواقع الفلسطينيّ، ولا أدلّ من ذلك من اعترافه بأنّ نصّ فيلم «الزمن الباقي» هو مذكّرات جدّه الّتي كتبها في سنوات النكبة والتهجير. ولم يكتفِ المخرج الفلسطينيّ بذلك، بل استخدم هذه الأسماء الحقيقيّة حتّى في مشاهده الساخرة؛ ففي مشهده الشهير الّذي يردّد فيه بائع الجرائد مقولة «الوطن بشيكل وكلّ العرب ببلاش»، لم يخرج النصّ عن الاستشهادات الحقيقيّة؛ إذ كان استخدام صحيفة «كلّ العرب» في فيلمه إشارة واضحة لجريدة موجودة فعلًا في تلك الفترة، ولا تزال. ولم يكتفِ سليمان بذلك، بل استخدم اسمه الحقيقيّ في معظم أفلامه، وكذا أسماء أفراد عائلته في فيلم «الزمن الباقي».
يثبت سليمان من خلال أعماله السينمائيّة، أنّه لا يمكن الفصل بين حياة الناس اليوميّة وبين قضيّتهم؛ إذ لا يمكن الحديث عن حياة الفلسطينيّين العاديّة، أو عن معاناتهم اليوميّة، أو حتّى عن قصّة حبّ فلسطينيّة دون التطرّق للواقع الاستعماريّ، بل لعلّ تداخلهما معًا يجعل أنماط الحياة اليوميّة للفلسطينيّين، والمحاولات الدائمة لتغييب المستعمِر، أداة من أدوات الأصلانيّ للبقاء، حتّى بدت هذه المشاهد كأنّها متأثّرة بما طرحه جان بروليه في روايته «صمت البحر»، الّتي حاول أن يعرض فيها الصمت والتغييب للمستعمِر، أداةً من أدوات المقاومة الّتي استخدمتها العائلة الفرنسيّة ضدّ الضابط الألمانيّ الّذي أُجْبِروا على السكن معه[1]. كان هذا واضحًا في كثير من المشاهد في أفلام سليمان؛ إذ كان مشهد الشابّ الّذي يخرج من منزله لرمي القمامة في فيلم «الزمن الباقي»، ومدفعيّة الدبّابة المستقرّة أمام منزله تتحرّك باتّجاهه مع كلّ حركة يتحرّكها، ذهابًا وإيابًا، بينما يظهر الشابّ بملامح صلبة كأنّه لا ترى الدبّابة، مثالًا جليًّا على محاولة التغييب الّتي يلعبها الفلسطينيّ مع المستعمِر.
لعلّ هذا المشهد شبيه تمامًا بمشهد آخر في فيلم «إن شئت كما في السماء»؛ إذ يستعرض الفيلم شابًّا فلسطينيًّا يشرب البيرة على رصيف المدينة، ويتبوّل في أزقّتها، ويكسر الزجاجة الفارغة في الشارع، تمامًا أمام أعين الشرطة الإسرائيليّة، دون الالتفات لهم. مشهد شبيه تمامًا بالمشهد السابق، يحاول فيه سليمان أن يعرض ما عرضه في مشاهد أخرى كثيرة.
لدى سليمان تصبح الحياة اليوميّة للفلسطينيّين أساس العمل، بينما تؤدّي شخصيّة إيليا سليمان دور المراقب في الفيلم، فلا يُعْرَض مشهد واحد في فيلم «إن شئت كما في السماء» حتّى تكون عينا إيليا هما المراقب لهذه الحياة اليوميّة، حتّى بات المشاهد يشعر بأنّ الكاميرا مركّبة على رأس إيليا، تراقب كلّ شيء كما يراقبه هو، تنقل لنا ما يراه لنراه نحن، كأنّه يقول لنا «هذه حياة الفلسطينيّين وهذه قصصهم، وتلك سرديّاتهم، فشاهدوا معي ما أشاهده».
تعطيل ما كان
بدأت هذه الميزة في أعمال إيليا حسب حميد دباشي في فيلم «الحلم العربيّ» (1998)، الّذي كان يمثّل بداية تخلّصه من افتراض الذكر الأوروبّيّ الأبيض، محاورًا رئيسيًّا، في ما يخصّ النكبة الفلسطينيّة، ومضى قدمًا ليسرد قصّة شعبيّة بطريقة لم يعد من الممكن إنكارها أو تشويهها أو رفضها. عطّل سليمان، من خلال اختبار التفكيك الفعّال لجميع الأساليب الغائبة في رواية القصص، عطّل كلّ القصص الّتي قيلت من قبل، جميع القرارات والاستنتاجات واليقينيّات. لقد فكّك فعل القصّ بذاته، وأنجز من هذا المنطلق فيلم «سايبر فلسطين» عام 2000[2].
إذن، يعتمد سليمان في المجمل على السرد اللّاخطّيّ، فلا تكون المشاهد محبوكة في مجملها؛ لا خطّ ناظمًا فيها، ولا معنى ممتدّ، لا بداية واضحة، ولا نهاية متوقّعة، تتوزّع المشاهد في أفلامه كأنّها مزيج من أفلام قصيرة، كلّها مستقلّة المعنى، مترابطة الهدف. تشترك كلّها بأنّها قصص من الحياة الفلسطينيّة. في ما تعرض الأفلام الصورة، يركّب المشاهدون نصّهم عليها، ويرون المشاهد كما أحبّوا أن يروها؛ لتصبح تأويلاتهم – على اختلافها – جزءًا من الفيلم، وربّما سببًا في فرادته.
إحالات
[1] نُشِرَت رواية «صمت البحر» باسم فيركور، وهو اسم مستعار استخدمه الرسّام جان بروليه قبل أن يُكْشَف عن اسمه الحقيقيّ. تروي الرواية قصّة عائلة مكوّنة من فتاة فرنسيّة مع جدّها، يُجْبَرون على استقبال ضابط ألمانيّ في منزلهم فترة احتلال فرنسا من قِبَل ألمانيا. تحاول العائلة في القصّة مقاومة الضابط من خلال الصمت المقطّع؛ في إشارة إلى المحاولة الدائمة من قِبَل المستعمَر على تغييب المستعمِر الّذي يحاول إيجاد نفسه ومعناه في حواراتهم اليوميّة، لكنّه يفشل وينسحب من المنزل. فيركور، صمت البحر (1952)، ترجمة وحيد النقّاش، (الدوحة: أزمنة للنشر والتوزيع، 2015(.
[2] حميد دباشي، «في مديح العبث: حول سينما إيليا سليمان»، أحلام وطن، ترجمة عماد الأحمد، (إيطاليا: المتوسّط، 2018)، ص 247.